الدارسين دون عامتهم، ولكن لشعرهم وزنًا وعمقًا وفحولة في إطار من مقدرة القول وملكة الشعر.
ومن الطريف أن المنصور نفسه كان ذا رأي في اختيار هذا اللون من الشعر لهذا الصنف من الشعراء المقلين، فقد كان المنصور واسع العلم والأخبار محبًّا للشعر وبخاصة الجيد منه، وكان كملك وأب يعد ولده لتولي الملك يشرف من بعيد على النهج الذي يسلكه مربي ولده والموضوعات التي يتفقه من خلالها، فقد مر ذات يوم بالمهدي يقرأ على أستاذه المفضل قصيدة المسيب بن علس العينية التي مدح بها القعقاع بن معبد بن زرارة عظيم بني تميم في الجاهلية والإسلام، والذي كان يقال له لكرمه وجوده "تيار الفرات" فلم يزل واقفًا من حيث لم يشعر به أحد حتى استوفى سماعها، ثم ذهب إلى مجلسه وبعث في طلب التلميذ الأمير والأستاذ العلامة، فلما حضرا أبدى المهدي إعجابه الشديد بحسن اختيار المفضل للشعر وأثنى عليه، ثم قال له: لو عمدت إلى أشعار المقلين واخترت لفتاك -أي للمهدي- لكل شاعر أجود ما قال لكان ذلك صوابًا1 ومن هنا كانت المحافظة على هذا اللون الفخم من الشعر الجزل في القول، المكين في البناء. فلنتفقد بعض أبيات تلك القصيدة التي أعجبت المنصور والتي تأدب وتخرج عليها المهدي.
يستهل المسيب مديحته بالنسيب البدوي فيقول:
أرحلت من سلمى بغير متاع ... قبل العطاس ورعتها بوداع
من غير مقلية وإن جبالها ... ليست بأرمام ولا أقطاع
إذ تستبيك بأصلتي ناعم ... قامت لتفتنه بغير قناع
ومها يرف كأنه إذ ذقته ... عانية شجت بماء يراع
أو صؤب غادية أدرته الصبا ... ببزيل أزهر مدمج بسياع