جفاف الموضوع وتعقده1.
ويطلق ابن الشجري نفسه على سجيتها، فإذا بها تفرغ لأبواب اللغة من نحو وصرف ثمانية وعشرين مجلسًا متتابعة ابتداء من المجلس الرابع والثلاثين إلى المجلس الثاني والستين، فيجعل المجلس الرابع والثلاثين -على سبيل المثال- في الحديث عن الاستخبار، والاستفهام، ثم يتحدث عن أقسام الاستفهام، ثم نتقل إلى عقد فصل عن الأمر، وفصل آخر عن النهي.
وأحيانًا يعقد مجلسين متتاليين لموضوع واحد، قد يبدو في ظاهره بسيطًا، ولكنه في حقيقته طويل معقد، فقد جعل صاحب الأمالي المجلسين الخامس والخمسين والسادس والخمسين للقول في الترخيم، وهو يكثر في الفصلين من ضرب الأمثلة الكثيرة ويحاول أن يقعد قواعد للترخيم في نطاق جهد مبذول ودرس مكدود، بل إن الترخيم لغلبته على ابن الشجري فإنه يبدأ به قبل المجلسين المذكورين، لقد بدأه في النصف الثاني من مجلسه الرابع والخمسين، وفيه عرف به لغة وتمثيلًا، وكان المجلس نفسه قد بدئ بدرس في حذف الياء من أم وعم2.
وابن الشجري وإن لم يتبع مذهبًا نحويًّا معينًا، فإنه يميل في أكثر أحكامه إلى آراء البصريين دون الكوفيين، فالمجلس التاسع والخمسون يعقده للحديث في "التعجب" ويرجح مذهب البصريين، كما يعقد المجلس الستين للحدث عن "نعم وبئس" ويفعل الشيء نفسه من أخذ برأي البصريين، وترجيحه على رأي الكوفيين.
ولا يكاد ابن الشجري ينصرف إلى الشعر والأدب في مجالس عدة حتى يعادوه الحنين إلى اللغة والنحو والصرف، فيجعل مجالسه التاسع والستين حتى الخامس والسبعين كلها في هذا اللون من الثقافة اللغوية، ويتناول موضوعاته برشاقة، وعمق في الوقت نفسه، إنه يجعل المجلس التاسع والستين للحديث عن الظروف، وهو من خلال ذلك يدلف إلى شواهد من القرآن الكريم، فيفسر قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ويركز على لفظ "قريب" وتعليل مجيئها في صيغة المذكر، ثم يستطرد فيفسر قوله تعالى: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} ويذكر القراءات التي جاءت في "بينكم" وهي الشاهد في الآية الكريمة، ويعالج حركتها وهي هل منصوبة أو مرفوعة، ويذكر من قرأها منصوبة وتعليله للنصب، ومن قرأها مرفوعة وتعليل الرفع3.