الرائية عنوانها "المقامة البشرية" وهي وغيرها من مقامات بديع الزمان تعتبر الأصل الحقيقي للقصة العربية القصيرة، وليس بالصحيح ما ذكره بعض من لم يطلعوا على تاريخ أجدادهم من المحدثين من أن القصة القصيرة وافدة علينا من الغرب الأوربي1.
إن بديع الزمان بمكره وظرفه ألبس قصيدته ثوبًا منسوجًا من ألفاظ تحتاج إلى شرح، حتى تبدو القصيدة وكأنها جاهلية حقيقية، الأمر الذي جعل ابن الشجري يقف أمامها وقفات طويلة متوفرًا على شرح الألفاظ، والإفاضة في طرح المعاني المستفادة مع وقفات نحوية ولغوية عديدة، ورطه فيها مكر بديع الزمان وسعة حيلته في نحل القصيدة ونسبتها إلى شاعر جاهلي موهوم.
ثالثًا: وهذا العنصر الثالث هو عنصر النحو واللغة ونصيبهما من أمالي ابن الشجري، والحق أن نصيبهما كبير، فصبغة الرجل صبغة لغوية نحوية على نسق الرعيل الأول من كبار المؤلفين الذين كانوا يحتفلون باللغة وقضاياها والنحو ومسائله أكثر من احتفالهم بالقضايا الأدبية، ونحن إذا نظرنا في مجموعة المجالس التي احتوتها أمالي ابن الشجري، وجدناه يعقد المجلس الأول لعرض مسائل نحوية عدة والإجابة عنها فيقول مثلًا: "إنما وجب بناء ما قبل ياء المتكلم على الكسر؛ لأنهم لو أعربوه لم تسلم الياء مع الضم والفتح، إذ الضم يقتضي قلبها إلى الواو، والفتح يقتضي قلبها ألفًا، فإن قيل قد فعلوا ذلك في نحو: يا غلامًا، قيل إنما فعلوا ذلك في النداء" ويستطرد ابن الشجري في ذكر الأسباب وإيراد الأمثلة، ويناقش بعض آراء النحاة واللغويين كابن جني وغيره في قضايا مماثلة.
ويخصص ابن الشجري المجلس الثاني من أماليه للغة من نحو وصرف، فيتحدث في إفاضة عن التثنية وفلسفتها ومعناها وضرورتها وأقسامها، وهذا المجلس يشكل فصلًا لغويًّا لطيفًا، شواهده آيات قرآنية، وأبيات منتقاة من الشعر العذب، وأحكام شرعية وبعض الطرائف2.
ويعقد صاحب الأمالي مجلسين هما الثلاثون والحادي والثلاثون للحديث في النحو خاصة، ويتناول بعض القضايا المشوقة مثل علة حذف نون المثنى عند الإضافة، أو الحديث عن الخلاف في اسم المفعول من قال، وباع، ولماذا هو مقول في الأول ومبيع في الثاني، وأصل كل منهما في صيغته الأصلية على مفعول قبل الحذف، وأي الحروف حذفت ولماذا؟ مع ذكر مذهب كل من الخليل وسيبويه والأخفش. والبحث في جملته طريف على ما فيه من