العكس، إنه يختاره لما يلتحف به البيت من غموض يحتاج إلى الاجتهاد في شرحه، وفهمه وتعليل معانيه، وهي نغمة كانت مستحبة في الشعر آنذاك وإن كان المنصفون من النقاد يرون ذلك عيبًا من عيوب شعر المتنبي، فالكلام المستغلق المعاني أبعد شيء عن البلاغة، ومن باب أولى يكون الشعر المبهم المعنى أبعد شيء عن الشعر الجيد.

ولكن لا بأس من أن نطل على ابن الشجري في مجلسه السادس، وهو يتناول بيت المتنبي الذي مر ذكره قبل قليل، إن حديثه عن البيت يستغرق مجلسًا بأكمله حسبما ذكرنا ويحتل سبع صفحات كاملة من أماليه1، إنه يتحدث عن الرؤية من قوله "وتراه أصغر ما تراه" ويتساءل: هل هي رؤية العين أو رؤية القلب، ويطيل في صيغ الاستفهام، ويكثر من تعديد الأسئلة، ثم يتولى بعد ذلك الإجابة عنها إجابة مفصلة في نطاق النحو والصرف، مطولة في نطاق الاستشهاد والتأويل المعنوي الأدبي، مع التمثيل لكل ما يقول بآراء السابقين من الأدباء واللغويين مثل الأصمعي وابن الأعرابي، ويجيء بأمثلة لبعض الشعراء أو من كانوا يصطنعون الشعر مثل الأعشى، والكسائي، وكثير بن عبد الرحمن، وذي الإصبع العدواني، وطرفة، وامرئ القيس، هذا فضلًا عن شعر كثير لشعراء عديدين لم يذكر أسماءهم.

وأحيانًا يقضي الشجري مجلسين متتاليين لدراسة عدة من الأبيات لشاعر واحد، فقد قضى المجلسين التاسع عشر والعشرين في شرح أبيات ثمانية لأعشى تغلب "ربيعة بن نجران" قالها في هجاء بني مروان والفخر عليهم، يتناولها من خلال المنهج اللغوي، والنحوي نفسه مع ذكر بعض الوقائع والأيام وأحداث التاريخ، والتمثل بشعر الآخرين2.

وأغلب الظن أن ابن الشجري كان ذا هدف في إيراد هذه الأبيات والإفاضة في شرحها في مجلسين يومي السبت السابع عشر من رجب، والرابع من شعبان سنة 524هـ. إنه بحكم كونه طالبيًّا هاشميًّا يحمل عداوة ظاهرة أو مستترة لبني أمية لما فعلوه بآل البيت ولاغتصابهم الخلافة منهم، ومن ثم كان وقوفه طويلًا على أبيات أعشى ربيعة يحمل معنى التشفي والراحة النفسية، ذلك أن بني أمية قد مدحوا بما لم يمدح به غيرهم من الخلفاء أو الملوك الذين ولوا إمرة المسلمين بعدهم، لقد مدحهم جرير والأخطل، والفرزدق، والقطامي، وعدي بن الرقاع، بل لقد مدحهم بعض من كان يكن لهم الكراهية والموجدة مثل كثير عزة، لقد مدحهم الفحول الكبار بما خلدهم كممدوحين كبار، فلا غرابة أن يتصيد ابن الشجري -وهذا موقفه منهم- أبياتًا في هجائهم والفخر عليهم يعثر عليها عند شاعر ينتمي إلى الدين نفسه الذي كان ينتمي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015