ولكن هناك بونا شاسعا بين هذا التعبير غير الإرادي عن الشعور، وبين النوع العادي للتفاهم، وهو الكلام، فالنوع الأول غرزي غير رمزي؛ لأنه لا يدل على نوع العاطفة، ولكنه فيضان آلي لطاقة العاطفة، وهو جزء من العاطفة نفسها؛ ثم هو لا ينقل فكرة على أي حال، فهو كالنباح والصهيل، وما إلى ذلك.

أما اللغة فهي طريقة إنسانية غير غرزية لنقل الأفكار، والعواطف والرغبات بواسطة نظام من الرموز، التي تستعمل بحسب الإرادة، هذه الرموز سمعية مبدئيا، وهي تنتج عما يسمى عادة أعضاء النطق، وربما جر الكلام عن أعضاء النطق إلى الظن بأن الكلام غرز، ولكن هذه الأعضاء في حقيقتها ليست وظيفتها النطق، وإنما تقوم بوظائف حيوية تساعد على جعل استمرار الحياة أمرا ممكنا.

وجوهر اللغة يتلخص في أنها تخصص رموزا صوتية للعناصر المختلفة للتجارب.

وهذه الرموز يجب أن تكون مخصصة بحسب التعارف، لا بحسب الطبيعة، ولا المنطق، أي أن العلاقة بين الكلمة، وبين مدلولها علاقة اعتباطية غير مسببة.

وللسيوطي1 كلام وجيز يفرق بين اللغة والكلام، ولست أدري إن كان السيوطي واعيا بهذا التفريق أولا، حيث يقول: "فإن قال قائل: فقد يقع البيان بغير اللسان العربي؛ لأن كل من أفهم بكلامه على شرط لغته فقد بين، قيل له: إن كنت تريد أن المتكلم بغير العربية، قد يعرب عن نفسه حتى يفهم السامع مراده، فهذا أخس مراتب البيان؛ لأن الأبكم قد يدل بإشارات وحركات له على أكثر مراده، ثم لا يسمى متكلما فضلا عن أن يسمى بينا بليغا".

وهنا نقطتان هامتان من التفريق، أولاهما أن المتكلم إنما يتكلم على شرط لغة معينة، بمعنى أنه يأتي بكلامه مصوغا بحسب النظم الصوتية والصرفية، والنحوية من مفردات هذه اللغة ومادتها، فالكلام كما يبدو في نظره نشاط عضلي مصوغ من رموز معينة، موضوعة بحسب قواعد معينة هي اللغة، وثانيتها أن الذي يستعمل الإشارة، يستعمل اللغة لا الكلام.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015