لم يقنع النحويون بالقول بمجرد العلاقة بين المشتقات، وإنما أصروا على أن يكيفوا هذه العلاقة بكيفية خاصة، فقرروها على أساس الأصل والفرع، بمعنى أن صيغة ما لا بد أن تتخذ أصلا لبقية الصيغ، وأن تسمي أصل الاشتقاق، وأن تعتبر الصيغ الأخرى، مشتقة منها، وذهب هؤلاء اللغويون في ذلك مذهبين شهيرين: "ذهب الكوفيون إلى أن المصدر مشتق من الفعل، وفرع عليه"1، وأتوا في ذلك بحجج ذكرها كمال الدين بن الأنباري في الإنصاف، وأورد منها أن املصدر يصح لصحة العقل، ويعتل لاعتلاله؛ وأن الفعل يعمل فيه، وأنه يذكر تأكيدًا للفعل، وأنه لا يتصور معناه إلا بفعل فاعل، وأنت ترى أن المراد هنا هو جعل الفعل أصل المشتقات، لا أصل المصدر فحسب، وإنما اختص المصدر بالذكر؛ لأن البصريين جعلوه أصل الاشتقاق، فجعل الكوفيون من هذا الأصل فرعًا، وانسحب ذلك على كل ما عداه من الصيغ بالضرورة، ويرد ابن الأنباري على حجج الكوفيين واحدة بعد الأخرى، فيقول ردا على حججهم: إن المصدر لا يأتي إلا صحيحا، ولا يعتل منه إلا ما فيه زيادة عن الأصل، وهو فرع عن الثلاثي، وهذا الذي يعتل إنما يعتل للتشاكل، وذلك لا يدل على الأصالة والفرعية.

ويجوز أن يكون المصدر أصلا، ويحمل على الفعل الذي هو فرع، وكون الفعل عاملا في المصدر لا يدل على أصالته؛ لأن الحروف والأفعال تعمل في الأسماء، ولا خلاف في أن الحرف والفعل ليسا أصلا للاسم؛ ولأن المصدر معقول قبل وقوع الفعل، فهو قبله، وأما أن المصدر يأتي مؤكدا للفعل، فذلك لا يدل على الأصالة في الفعل أيضا؛ لأن التوكيد غير مشتق من المؤكد في مثل "قام زيد زيد"، فكذلك هنا، وأما أن المصدر لا يتصور معناه ما لم يكن فعل فاعل، فذلك باطل؛ لأن الفعل في الحقيقة ما يدل على المصدر، وأما صيغة الفعل، فإخبار بوقوع ذلك الفعل في زمان معين، ومن المحال الإخبار بوقوع شيء قبل تسميته.

ولعل القارئ يرى أن النحاة هنا، قد خرجوا في محاجتهم عن شكلية اللغة إلى مضايق المنطق والفلسفة، وبنوا جدلهم على نظرية ظهر فسادها، هي نظرية

طور بواسطة نورين ميديا © 2015