وانصرفت إلى أبي عبد الله وأخبرته، فحضر بعد المغرب وصَعِدَ غُرْفَةً في الدار، واجتهد في وِرْدِه إلى أن فرغ، وحضر الحارث وأصحابه فأكلوا، ثم قاموا لصلاة العتمة ولم يصلوا بعدها، وقعدوا بين يدي الحارث وهم سكوت لا ينطق واحد منهم إلى قريب من نصف الليل، وابتدأ واحد منهم وسأل الحارث عن مسألة فأخذ في الكلام وأصحابه يستمعون كأن على رءوسهم الطير، فمنهم من يبكي، ومنهم من يحن، ومنهم من يزعق، وهو في كلامه، فصعدت الغرفة لأتَعرَّف حال أبي عبد الله، فوجدته قد بكى حتى غُشي عليه، فانصرفت إليهم، ولم تزل تلك حالهم حتى أصبحوا، فقاموا، وتفرقوا، فصعدت إلى أبي عبد الله، وهو متغير الحال، فقلت: كيف رأيتَ هؤلاءِ يا أبا عبد الله؟ فقال: ما أعلم أني رأيت مثل هؤلاءِ القوم، ولا سمعت في علم الحقائق مثل كلام هذا الرجل، وعلى ما وصفت من أحوالهم فلا أرى لك صحبتهم. ثم قام وخرج.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب، قال: أخبرنا إسماعيل بن أحمد الحيري، قال: أخبرنا أبو عبد الرحمن السُّلَمي، قال: سمعتُ أبا القاسم النَّصْراباذي، يقول: بلغني أن الحارث المحاسبي تكلم في شيءٍ من الكلام، فهجَره أحمد بن حنبل فاختفى في دار ببغداد ومات فيها، ولم يُصَلّ عليه إلا أربعة نفر.