هذه المقبرة، فإنكم لا تعلمون منزلتها في قلبي، ولا أستطيع أن أعلمكم، وكيف؟ أوَ تصدقون إذا قلت لكم إن لهذه المقبرة صوراً في نفسي أحلى من صور الرّوض، وذكريات أجمل من ذكريات الحب؟ وإن نهرها هذا الصغير القذر أعزُّ عليّ من بردى ودجلة والنيل، وأشجارها هذه المنحنية عليه أبهى عندي من صنوبر فالوغا ونخيل الأعظمية، وكراسيها هذه الواطية أفخم في عيني من أسرّة «أوريان بالاس» و «شبرد»؟
إن في هذه المقبرة بقايا من قلبي، إن لها تاريخاً في نفسي يعرف أكثره أخي أنور (?). فسلوا أنور متى يقوم بحق الوفاء لهذه الذكريات فيخلدها بقصائد بارعات من شعره العبقري؟ فما أُحسنُ أنا تخليدها، لا أطيق أن أفِيَ لها هذا الوفاء. سلوه أنَسِيَ ليالي نمشي فيها لنزور قبور الأحبة في ظلمة الليل: أبي وأمي وأمه وأبيه، ونبكي عليها والمقبرة ساكنة خالية، ما ترانا إلاّ عيون النجم وما تسمعنا إلاّ الشواهد الشواخص، ونحدق في سدفة الزمان نرقب أن نرى طلعة الأحباب الذين اشتد إليهم الشوق وطال الغياب، فلا نرى إلاّ ظلاماً متراكباً، ونعود فنحاول أن نخترق حجاب الآتي لنبصر طيف الأمل الحلو فلا نبصر إلا الظلام؟ ... ليالي كنا نعود وقد برّح بنا الألم وهدّنا الحزن، فأستمع من أنور بواكير أشعاره ويسمع مني بوادر رسائلي، تلك البواكير التي قرأها الناس فرأوها ندية بالدمع فياضة بالحزن، فقالوا: ما لهذا الشاب والألم، ما له