ثم أمَمنا مقبرة الدحداح، فإذا الحياة الضاحكة جاءت تزاحم الموت العابس على أرضه وتنتزع منه مثواه، وإذا المقبرة، دار الوحشة والعبرة، قد أحالها العيد منزل الفرح واللهو، ففيها «الدُّوَّيْخات» منصوبات، و «القلاَّبات» قائمات، والعربات الصغار مزيَّنات بالأعلام الملونات مشدودة في جوانبها الأجراس والجلاجل، والأطفال بثيابهم التي تحكي زهر الربيع، منها الأحمر والأصفر والأخضر والفضي والمقصَّب وذو الطرر وذو الحواشي، راكبون على أفراس «الدُّوّيْخة» تدور بهم، أو جالسون في سرر «القلاّبة» تصعد بهم وتنزل، أو متعلقون بالعربة، والنساء قاعدات عند النهر، والرجال مجتمعون عند التلّ، وعلى القبور الآس الأخضر معقود بشُرُط الحرير يخيل للرائي من كثرته أنه في جنة ملتفة الأفنان، وخلال الآس الخيام المنقوشات والسّرادقات، وباعة «القضامة» و «اللب» و «عِرْق السوس» يجولون بين الناس ينادون أعجب النداء، وبياع «الفول النابت» قد أوقد ناره ورفع قدره ونصب مائدته، وحفَّ به الصبيان والبنات، وصاحب «صندوق الدنيا» قد حطَّ صندوقه، وقعد حوله الأولاد ينظرون، فإذا هم يسيحون في البلاد ويرون عبلة وعنتر بن شداد، فلا يكادون يستمرئون الحلم ويستغرقون فيه حتى يرخى الستار فيهبطوا إلى أرض الواقع، فإذا الذي كانوا فيه قد مرَّ كما تمرّ الأحلام لم يخلّف إلاّ ذكرى مشوبة بألم الفقدان.
كذلك كانت المقبرة أول ما عرفت العيد؛ إنها صورة المقبرة يوم نفخ إبليس في بوق الحرب العالمية الأولى سنة 1914.
صبرَكم -يا أيها المستمعون- ودعوني أُطِل وقوفي على