هنالك على أربعة فرش مبسوطات على الأرض متجاورات، ما تحتهنّ سرير، تغطيهن البسط والجلود، كان ينام هؤلاء الأولاد الذين رُبّوا في النعيم وغُذّوا بلبان الدلال، تسهر عليهم أم -مثلكِ- حملت ما لم تحمله أم، تدرأ عنهم سيل البقّ الذي يغطي الجدران، وأسراب البعوض التي تملأ الغرفة، والماء الذي ينزل من السقف. تظل الليلَ كله ساهرةً تطفئ بدمع العين حرق القلب، تذكر ما كانت فيه وما صارت إليه، والأقرباء الموسرين الذين لم يكونوا يخرجون من دار الوالد، كيف تخلوا عن الأولاد وأنكروهم، حتى جاؤوا يوماً يزورون جار الدار الموسِر يهنئونه بالعيد ولم يطرقوا -والله- عليهم الباب؟ ولم يُعِنْها أحد، ولم يسعفها إلاّ أخ لها في مصر (?) أمدّها بجنيهات مصرية قليلة لم يكن يطيق أكثر منها.
في هذا الجو يا سيدتي ... وماذا تظنين هذا الجو؟ فيه أقبل الولد وإخوته على الدرس والتحصيل. وكانت أطراف البلد للثوار، ليس للفرنسيين إلاّ وسط المدينة. فكانوا يمرون على الموت في طريقهم إلى المدرسة كل يوم، يخترقون جبهة الحرب (الاستحكامات) القائمة أمام جامع التوبة، وصبروا ووثقوا بالله، وأعانهم الله ووفّقهم، حتى صاروا ... ماذا تقدّرين أنهم صاروا الآن؟
صار الولد الثاني قاضياً، وصار أديباً شاعراً مصنّفاً، والثالث أستاذاً كبيراً في الجامعة وأولَ من حمل لقب دكتور في الرياضيات