من حديث النفس (صفحة 29)

ونشأ أولاده في هذا البيت، لا يعرفون ذلّ الحاجة ولا لذعة الفقر. ولكنهم أصبحوا يوماً (من أيام سنة 1925)، الولد الكبير البالغ من عمره ستَّ عشرة سنة وإخوة له تتراوح أعمارهم بين عشر وبين شهر، فإذا بالوالد قد تُوفّي.

وارتفع السّتر، فإذا التركة ديون للناس؛ فباعوا أثاث الدار كله ليوفوا الدَّين، ثم تركوا الدار الفسيحة في الصالحية ونزلوا تحت الرصاص (وكانت أيام الثورة) يفتّشون عن دار يستأجرونها، فوجدوا داراً ... أعني كوخاً، زريبةَ بهائم، مخزنَ تبن ... في حارة الديمجيّة. هل سمعتِ بها؟ في آخر العُقَيْبة، قرب المكان الذي يسميه الناس من التوائه وضيقه «محلّ مَا ضيَّع القردُ ابنَه». هذا هو اسمه، صدّقيني!

في غرفتين من اللبِن والطين، في ظل دار عالية لأحد موسري الحارة تحجب عن الغرفتين الشمسَ والضياء، فلا تراهما -قط- الشمسُ ولا يستطيع أن يدخلهما الضوءُ، ليس فيهما ماء إلاّ ماء ساقية وسخة عرضها شبران وعمقها أصبعان، تمشي مكشوفةً من «تورا» في الصالحية إلى هذه الحارة، تتلقّى في هذا الطريق الطويل كلّ ما يُلقى فيها من الخيرات الحسان! وليس فيها نور إلا نور مصباح كاز، نمرة ثلاثة ... يضيء تارة و «يشحّر» (?) تارات ... والسقف من خشب عليه طين، إن مشت عليه هرة ارتجّ واضطرب، وإن نزلت عليه قطرة مطر وَكَفَ و «سرَّبَ».

طور بواسطة نورين ميديا © 2015