وذلك بأن يخضع الطفل لدورات منظمة من خلال رياض الأطفال لا يسمع فيها إلاّ الفصيح من الكلام، وقد أثبتت هذه الطريقة فعاليتها وآتت أكلها على خير وجه من خلال التجارب التي أجراها الأستاذ الدكتور عبد الله الدنان على طفليه أولاً ثم على رياضٍ للأطفال في كل من الكويت ودمشق، وهو بصدد تعميم هذه التجربة على أقطار الوطن العربي الكبير، وقد بلغت المدارس التي تطبِّق طريقته اثنتين وسبعين مدرسةً في نحو تسع دول عربيَّة.
ويؤكد د. الدنان – الذي درس أصول التربية واكتساب اللغة ومهارات التعليم في بريطانيا وكان له مشاركة فعالة في البرنامج التلفازي الناجح (افتح يا سمسم) – أن مرحلة الخصوبة اللغوية إنما تنحصر في المدة الواقعة بين السنة الأولى والسنة السادسة من عمر الطفل؛ إذ يحاكي الطفل ما يسمعه من حوله وتكون لديه القدرة العجيبة على المحاكاة والتركيب والتحليل والقياس والتوليد والاشتقاق والنحت، إلى حدٍّ جعل التربويين يفكرون بتلقين الطفل عدة لغات بآن واحد في هذه السنِّ كما يجري في سدني بأستراليا، إذ تقوم إحدى المؤسسات التربوية بتلقين الأطفال سبع لغات بآن واحد!!.
وأنا أشهد أن تجربة د. الدنان قد حظيت بنصيب لا بأس به من النجاح، فقد سمعت حوارًا مسجلاً على الفيديو بينه وبين ابنه ذي السنوات الثلاث فكانت العربية تجري طيِّعة غضَّة على لسان الطفل بلا تكلف ولا اصطناع، وإن تعجب فعجب أمره حين كان يجيب أمه بالعامية إما تدخلت في ذلك الحوار ثم يعود إلى عربيته مع أبيه، فما كانت العربية بمانعة له من محاكاة لغة أمه العامية، فلكل مقام مقال، ولكل سؤال جواب.
ثم زرت الروضة التي أسسها في الكويت عام 1989م، وزرت الروضة التي أسسها في دمشق عام 1995م، فسمعت عجبًا من حديث الأطفال بالعربية الفصيحة، وسمعت طُرَفًا من أفانين اشتقاقهم وتوليدهم وقياسهم، مما جعلني أجري التجربة مع بعض أولادي في حدود ضيقة وقد كان فيها نفع كبير وأجراها بعض أصحابي أيضًا فأثبتت نجاحًا باهرًا.
وقد شهد بنجاح هذه التجربة رهط من أهل العلم وأرباب اللغة على رأسهم أستاذنا العلامة سعيد الأفغاني رحمه الله، على أنه أبدى ملاحظة جديرة بالاهتمام وهي اقتصار التلقين على الحوار وقص القصص بالعربية الفصيحة، وعدم اشتماله على نصوص سهلة من عيون الأدب العربي تساعد الطفل على اكتساب اللغة وتنمية الذوق الأدبي الرفيع، وامتلاك أدوات الفصاحة والبيان.
وأنا مع أستاذنا الجليل في كل هذا، فلا بدَّ إلى جانب التلقين هذا من عرض طائفة من نصوص العربية تتخير من أسهلها لفظًا وأسلسها عبارةً وأيسرها حفظًا وأقربها فهمًا، وأحلاها إيقاعًا ووزنًا، ليسمعها الطفل فيطرب لها، ويتغنى بها، ويحفظها فتكون له رصيدًا وزادًا لغويًّا يرتقي به إلى مرتبة الفصحاء والأبيِناء.
أذكر من هذه النصوص المتخيَّرة – على سبيل التمثيل – صغار السور القرآنية، وهي مما يمكن أن يردِّده مجموع الأطفال مع معلمهم بصوت واحد يجعل حفظه سهلاً، بل ينقشه في ذاكرة الطفل نقشًا يصعب أن يزول مع الزمن، ويمكن أن تتوسع دائرة هذه السور لتشمل جزء عمَّ كلَّه وتُضَم إليه سورٌ أخرى يسهل تردادها على ألسنة الأطفال.
ومن هذه النصوص أيضًا قصائد تُتخيَّر من أرق الشعر وأعذبه جرسًا وأخفِّه وقعًا، مما يمكن أن يتغنى به الأطفال، كقصائد شوقي على ألسنة الحيوان، وقصائد سليمان العيسى الخاصة بالأطفال، بل إن المتتبِّع للشعر العربي يقف على نماذج من عيون الشعر القديم بلغت الغاية في العذوبة والرقة والسهولة والخفَّة، من مثل قول العباس بن الأحنف المتوفى (192هـ):
وكانت جارةً للحُ ورِ في الفِردَوسِ أحقابا
فأمسَتْ وهي في الدُّنيا وما تألفُ أَترابا
لها لُعَبٌ مُصَفَّفةٌ تُلقِّبُهُنَّ ألقابا
تُنادي كُلَّما رِيعَتْ مِنَ الغِرَّة يا بابا [6]
وأمثالها كثيرة في أدبنا العربيّ، وقد كان أستاذنا العلامة أحمد راتب النفاخ يحفِّظ ولده من غرر الشعر الجاهلي والإسلامي الشيء الكثير ولم يكن عمره يزيد على أربع سنوات!
¥