ـ[أحمد نصيب علي]ــــــــ[11 - 05 - 2012, 05:47 ص]ـ
إنَّ وجود أُمة قائمة ذات شخصيَّة متميزة وكِيان مستقل، وذات تقاليد وأعْرَاف وطبائع نفسيَّة وسلوكيَّة، مرتبط تمام الارتباط ببقاء لُغة هذه الأُمة؛ بل مُرتهن بحياة هذه اللغة، أو موتها، ومُحاذٍ لمستويات ازدهارها وضَعفها [1].
إنَّ الأُمة عندما تفقد لُغتها الأصلية، وتُهيمن عليها لُغة أخرى غير لُغتها، فإنَّ ما يحدث هو أن نجدَ بعد فترة من الفترات أُمة أخرى - لها كِيانها وخصائصها - تختلف عن الأُمة الأولى، فكلاهما أُمَّتان مختلفتان - وإن كانوا في الأصل نفس الأُمة السابقة في الموطن الجغرافي، والسلالة البشرية [2].
ولقد عرَف الناس مغبَّة مَن أخَذ العلم بغير لُغة أُمَّته من قديم، وشاعَت في الناس حِكمة يردِّدونها: "إن التعليم باللغات الأخرى ينقل بعض الأفراد إلى العلم، ولكن التعليم باللغة الوطنيَّة ينقل كل العلم إلى الأُمَّة" [3].
فما فرَّطت أُمَّة في جانب لُغتها، إلاَّ كان ذلك إيذانًا بفدحِ مُصابها، أو إيذانًا بوشْك ذَهابها؛ بل ليس التفريط إلا انقطاعًا من سلك التاريخ، وما انقطعَت أُمة من سلكه إلاَّ جهلته [4].
ألا أنَّ اللغة تَرِكة الماضي، وغِنَى الحاضر، وميراث المستقبل، وهذه الأزمنة الثلاثة هي كلُّ أعمار الأُمم في التاريخ، فما أرى إذا أضاعَت أُمَّة لُغتها بأيِّ شيء يُشار إليها، وبأيِّ دَلالة يدل عليها [5]؟!
ولأجْل هذه الأهميَّة العُظمى للغة، جعلَت الأُمم العناية بلُغتها والاهتمام بها هي إحدى أولويَّاتها، التي لا تستطيع أن تستغني عنها؛ بل جعلتْها من دعائم نَهضتها، التي تسعى إليها، وتَحرص عليها [6].
يقول الفيلسوف هيدجر: "إن لُغتي هي مسكني، هي موطني ومستقرِّي، وهي حدود عالَمي الحميم، ومعالمه وتضاريسه، ومن نوافذها وبعيونها أنظرُ إلى بقيَّة أرجاء الكون الفسيح" [7].
ففي فرنسا أصدرَت الجمعية الوطنيَّة الفرنسيَّة قرارًا بعدم السماح بعقد المؤتمرات الوطنية العلميَّة المتحدِّثة باللغة الإنكليزية على الأرض الفرنسية.
وفي فيتنام دعا القائد الفيتنامي "هوشي منه" أُمَّته قائلاً: "لا انتصار لنا على العدو إلاَّ بالعودة إلى ثقافتنا القوميَّة ولُغتنا الأُمِّ" [8].
ولَمَّا استسلمَت اليابان في الحرب العالمية الثانية، قَبِلت كلَّ الشروط إلاَّ شرطًا واحدًا، وهو التخلي عن لُغتها القوميَّة، فكانت مُنطلق نَهضتها العلميَّة والصناعية الجديدة [9].
وها هي الدولة الصِّهْيَونيَّة - إسرائيل - أقامَت كِيانها علي إحياء لُغتها العِبرية، وهي لغة ميِّتة منذ ألْفَي سنة، فاعتمدتْها في جميع شؤون حياتها، حتى في المؤتمرات الذريَّة والنوويَّة [10].
ولا أشكُّ أن لُغتنا العربية لا تقلُّ مكانتها عن سائر اللغات؛ بل إنها تتفوَّق عليهنَّ جميعًا، من حيث المكانة والمكان والتاريخ العريق.
يقول الأديب الكبير علي الطنطاوي - رحمه الله -: "اللغة العربية أكملُ اللغات، وما عرَفها التاريخ إلاَّ كاملة؛ حتى تعجَّب من ذلك "أرست رينان"، وهي أوسع اللغات [11].
ويضيف الطنطاوي في موضع آخر قائلاً: "وهي أكملُ لُغات البشر وأجودها مخارجَ، وأضبطُها قواعد ذات القياس المطرد، والأوزان المعروفة، وقد أضاعَها أهلوها وأهملوها، ولَم يَكْفهم أنْ قعَدوا عن نشْرها وتعليمها للناس كما فعَل أجدادهم من قبل؛ بل هم قد تنكَّروا لها وأعْرَضوا عنها، وجَهِلها حتى كثير ممن يَدرسها، وكثير ممن يدَّعون الأدب فيها" [12].
وللأسف الشديد مع هذه الأهميَّة العظيمة للعناية باللغة، وفضْلها على ما سواها، فما زالت ظاهرة إهمال اللغة العربية مستمرة؛ بل ومنتشرة على جميع المستويات، تبدأ هذه الظاهرة في الدراسة التي أصبحَت الآن تشهد لونًا من فرْض اللغة الإنكليزية بوصْفها لُغة المستقبل، ولُغة التعليم والثقافة الرفيعة؛ بل ولُغة الحصول على فرصة العمل، ونلاحظ أنَّ وسائل الإعلام تستخدم خطابًا عاميًّا، يفتقر إلى علاقة صحيحة مع اللغة العربية الأمِّ؛ بل نلاحظ في القنوات الفضائيَّة ما يُشبه المنافسة في فرْض اللهجات المحلية لكلِّ بلدٍ عربي، وبعض القنوات العربية الخاصة الآن تبثُّ الفقرة الإخبارية باللهجة العاميَّة، في حين نجد أنَّ بعض المسلسلات الدراميَّة
¥