ـ[أبو البقاء الرندي]ــــــــ[05 - 05 - 2014, 07:13 م]ـ
قالت ميسون بنت بحدل:
لَبَيْتٌ تخفِقُ الأرواحُ فيه # أحبُّ إليَّ من قصرٍ مُنيفِ
وأصواتُ الرياحِ بكل فَجٍّ # أحبُّ إليَّ من نَقْر الدُّفوفِ
وبكْرٍ يتْبَعُ الأظْعانَ صَعْبٌ # أحبُّ إليَّ من بَغْلِ زَفُوفِ
وكلبٌ ينبح الطُرَّاق عنّي # أحبُّ إليَّ من قِطٍّ ألوفِ
ولُبْسُ عباءةٍ وتقَرَّ عيْني # أحبُّ إليَّ من لَبْسِ الشُّفوفِ
وأكْلُ كُسَيْرَة في كِسْرِ بَيْتي # أحبُّ إليَّ من أَكْلِ الرَّغيفِ
وخَرْقٍ مِن بني عمي نحيفِ # أحبُّ إليَّ من عِلْجٍ عليفِ
خشونَةُ عِيشتي في البدْو أشهى # إلى نفسي من العيشِ الظَّريفِ
فما أبْغي سوى وطني بديلا # فحسبي ذاكَ من وطن شريف
جاء في تاريخ الطبري (5/ 329)
من نسائه -أي معاوية- ميسون بنت بحدل بن أنيف بن ولجة بن قنافة بن عدى ابن زهير بن حَارِثَة بن جناب الكلبي، ولدت لَهُ يَزِيد بن مُعَاوِيَة
وفي تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام للذهبي (5/ 271)
وَقَالَ أَبُو مُسْهَرٍ: حَدَّثَنِي زُهَيْرٌ الْكَلْبِيُّ قَالَ: تَزَوَّجَ مُعَاوِيَةُ مَيْسَونَ بِنْتَ بَحْدَلٍ، وَطَلَّقَهَا وَهِيَ حَامِلٌ بِيَزِيدَ، فَرَأَتْ فِي النَّوْمِ كَأَنَّ قَمَرًا خَرَجَ مِنْ قِبَلِهَا، فَقَصَّتْ رُؤْيَاهَا عَلَى أُمِّهَا، فَقَالَتْ: لَئِنْ صَدَقَتْ رُؤْيَاكِ لَتَلِدِنَّ مَنْ يُبَايَعُ لَهُ بِالْخِلافَةِ
وفي التذكرة الحمدونية (7/ 416)
لما زفّت ميسون بنت بحدل الكلبية إلى معاوية تشوفت إلى البادية وذكر الأبيات ـــ
فلما بلغت الأبيات معاوية قال: والله ما رضيت بنت بحدل حتى جعلتني علجا عليفا.
ما أجمل اعتزاز المرء بأصله وبيته ووطنه وموروثه يفخر به ويمجده ويرفعه فوق ما يتراءى من الزخرف الزائف والدجل الجديد، خاصة إذا كان أصلا ثابتا ذا فرع عال في السماء، ولنعم الحنين حنين هذه البدوية الفصيحة إلى أصلها غير متنكرة إليه ولا باغية عنه بدلا، لم يلهها عنه ما غُمست فيه من النعيم والنعم في القصر الذي أنشئ لها وما أغدق عليها من الخدم والمأكل والمشرب والملبس الناعم، بل إنها لتتنكر لكل ذلك لتحن إلى قساوة الحال وشظف العيش وخشن الثوب وترفع ذلك مكانة عالية سامقة فوق كل شيء،
وهكذا كل فرع ذي أصل متأصل أصيل يحن إلى أصله ويتمسك به ويعض نواجده عليه كما يحن الغصن إلى جدعه يلتصق به ويتمسك به ويمتص منه غذاءه ولبانهـ، فبه يحيا وبه يقتات ومنه ينبث الورق والزهر والثمر فإذا قطعَ حبله به كان مصيره الهلاك
وقد مضت سنة الناس على ذلك تحكمهم أصول ثوابت ومن ذلك فخر أهل الجاهلية بآبائهم، ولما عرض حسان بن ثابت رضي الله عنه شعره على النابغة الذبياني فقال:
ولدنا بني العنقاء وابني محرقٍ # فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا ابنما
قال له النابغة الذبياني: إنك لشاعر لولا أنك قللت جفانك وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك.
ومضت بذلك سنتهم يقوِّمون من اعوج عن نهجها ويردونه إلى سواء السبيل،
يقول عمرو بن كلثوم:
وَرِثناهُنَّ عَن آباءِ صِدقٍ # وَنُورِثُها إِذا مُتنا بَنينا
ويقول زهير ابن أبي سلمى:
فَما يَكُ مِن خَيرٍ أَتَوهُ فَإِنَّما # تَوارَثَهُ آباءُ آبائِهِم قَبلُ
ويقول جرير:
إِذا أَباؤنا وَأَبوكَ عُدّوا # أَبانَ المُقرِفاتُ مِنَ العِرابِ
فَأَورَثَكَ العَلاةَ وَأَورَثونا # رِباطَ الخَيلِ أَفنِيَةَ القِبابِ
ويقول أوس بن حجر:
وَرِثنا المَجدَ عَن آباءِ صِدقٍ # أَسَأنا في دِيارِهِمُ الصَنيعا
إِذا الحَسَبُ الرَفيعُ تَواكَلَتهُ # بُناةُ السوءِ أَوشَكَ أَن يَضيعا
ولقد صدقت كلمة أوسِ بنِ حجر فينا فقد ورثنا المجد عن آباء صدق فأسأنا صنعا في تركتهم وثراتهم فمنا العابث ومن اللاهي ومنا الهادم
وأمرهم في تعظيم الآباء نسبا كما مضى، وفي مكارم الأخلاق يقول القعقاع بن عمرو:
كَم مِن أَبٍ لي قَد وَرَثتُ فِعالُهُ # جَمِّ المَكارِمِ بَحرُهُ تَيّارُ
وفي العلم يقول الفرزدق:
وَهَبَ القَصائِدَ لي النَوابِغَ إِذ مَضَوا = وَأَبو يَزيدَ وَذو القُروحِ وَجَروَلُ
وَالفَحلُ عَلقَمَةُ الَّذي كانَت لَهُ = حُلَلُ المُلوكِ كَلامُهُ لا يُنحَلُ
وَأَخو بَني قَيسٍ وَهُنَّ قَتَلنَهُ = وَمُهَلهِلُ الشُعَراءِ ذاكَ الأَوَّلُ
وَالأَعشَيانِ كِلاهُما وَمُرَقِّشٌ = وَأَخو قُضاعَةَ قَولُهُ يُتَمَثَّلُ
وَأَخو بَني أَسَدٍ عُبَيدٌ إِذ مَضى = وَأَبو دُؤادٍ قَولُهُ يُتَنَحَّلُ
وَاِبنا أَبي سُلمى زُهَيرٌ وَاِبنُهُ = وَاِبنُ الفُرَيعَةِ حينَ جَدَّ المِقوَلُ
وَالجَعفَرِيُّ وَكانَ بِشرٌ قَبلَهُ = لي مِن قَصائِدِهِ الكِتابُ المُجمَلُ
وَلَقَد وَرِثتُ لِآلِ أَوسٍ مَنطِقاً = كَالسُمِّ خالَطَ جانِبَيهِ الحَنظَلُ
وَالحارِثِيُّ أَخو الحِماسِ وَرِثتُهُ = صَدعًا كَما صَدَعَ الصَفاةَ المِعوَلُ
يَصدَعنَ ضاحِيَةَ الصَفا عَن مَتنِها = وَلَهُنَّ مِن جَبَلَي عَمايَةَ أَثقَلُ
دَفَعوا إِلَيَّ كِتابَهُنَّ وَصِيَّةً = فَوَرِثتُهُنَّ كَأَنَّهُنَّ الجَندَلُ
ويقول عنترة بن شداد "هل غادر الشعراء من متردم"
ولا يتنكر لأصله إلا الدعي من الأدعياء الذي يحاول قطع صلته وربط حبله بغيره نسبا ودينا وثقافة وأدبا
هذا وإن أناسا جاد عليهم الغرب ببعض النعم أن استقبلوهم فأحسنوا معاملتهم وأكرموهم وعلموهم بعناية وأغدقوا عليهم دولارات وأفكارا ومناهج حديثة وضمنوا لهم وظائف عالية حين عودتهم لبلادهم، فلم يكن حالهم كحال تلك البدوية الأصيلة بل حملوا معاولهم محاولين اجتثاث هذه الأمة وقطع صلتها بأجدادها وآبائها وماضيها باذلين في ذلك جهدهم منفقين من أموالهم وأوقاتهم، مرة بإغراق الأمة بشيء من دراسة العبث والمجون ومرة بالطعن في الأئمة والعلماء ومرة في استبدال مناهج غربية غريبة دخيلة لا أصل لها بمناهجنا وأصولنا، ومرة بالغمز واللمز يقولون رجعي، أصولي ,,,