ذَكَرَ الطّناحيُّ -رحمه الله- بعضَ تجاربه الخاصَّة؛ يقولُ: (لي صديقان أحدهما طبيب، والآخر صيدليّ، يُحبَّان الأدبَ حُبًّا جمًّا، ويحرصان علَى قراءة ما أكتب، ويطربان جدًّا لما أجتهدُ فيه من ضُروب البيان وتحسين العبارة، وعلى الجانب الآخر يقرأُ بعض زملائي من أساتذة العربيَّة هذا الَّذي أكتب، فيداعبونني بمثل قولهم: إيه الكلام ده؟ إيه الأساليب دي؟ ألفاظك كلها كلاكيع! وأعلم يقينًا أنَّه لولا المحبَّة لاستحالت هذه الدّعابة سخريةً لاذعةً، وإزراءً شديدًا).
ثمَّ يقول: (وقد انتقلت سخرية الأساتذة إلى تلاميذهم من معلِّمي العربيَّة في مدارسنا الآنَ: سأل مدرِّس اللُّغة العربيَّة التَّلاميذَ في الثانويَّة العامَّة عن مُرادف لعبارة «رغد العَيْش»؛ فأجاب ابْنِي: «بُلَهْنِية»، فضَحِكَ المدرِّس ضحكةً عاليةً، وسخر منه قائلاً: «إيه يا خويه؟»، وحمدتُّ اللهَ أن وقف المدرِّسُ العابث بالسخرية عند هذا الحدِّ، فإنَّ لهذا التركيب الَّذي نطق به ذلك المدرِّس تكملةً سوقيَّة يعرفها أهل السُّخرية، ولعلَّه قالها وكتمَها ابني عنِّي).
• البيان وأبواب النَّحو
يقولُ الطناحيُّ -رحمه الله-: (ويبقَى أنْ أقولَ: إنَّ إهمالَ البيانِ والتَّأنُّق في الكلام وتحسين العبارة قد أدَّى إلى هَجْرِ كثيرٍ من أبواب النَّحو، وقلَّة استعمال بعضها في كتابات الكاتبين الآن؛ مثل البَدَل، وبخاصَّة: بدل البعض، وبدل الاشتمال، و «كان» التَّامَّة في مثل قوله تعالَى: ?وإن كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ? [البقرة: 280]، و «كان» الزَّائدة في نحو: ما كان أغناك عن هذا ...
واسم الفاعل واسم المفعول العاملان في التَّركيب، والمصدر الميميّ، والمصدر المؤول، وبعض جموع التَّكسير الفصيحة، وزيادة الباء في خبر «ليس» وفي خبر «ما»، مع كثرة ذلك في القرآن وكلام الفصحاء ...
وممَّا أُهْمِلَ -أيضًا- المفعول المطلق المؤكِّد للفعل، فأنت لا تكاد تقرأ لكاتب يقول: كلَّمته كلامًا، من غير أن يُضيفَ إليه وصفًا، فيقول: كلامًا شديدًا ونحوه، مع مجيء ذلك بكثرة في الفصيح، ومنه قوله تعالى: ?رَأَيْتَ المُنافِقينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدودًا? ...
ومن ذلك: باب تعدِّي الأفعال بنفسِها أو بحرف الجَرِّ، مثل: شكرتُه وشكرتُ له، ونصحتُه ونصحتُ له، فلا يكاد الكتَّاب يستعملون إلاَّ الأوَّل. . . إلى أبواب نحويَّة أُخْرَى أُهْمِلَتْ وعُطِّلَتْ.
علَى أنَّ من أبواب النَّحو الَّتي كادَتْ تختفي -الآنَ- تمامًا: باب التَّوكيد اللَّفظيّ -وهو إعادة الكلمة بلفظها-، والاستغناء عنه بالتَّوكيد المعنويّ، وهو التَّوكيد بالنَّفس أو بالعين أو بكلّ وجميع، مع أنَّ التَّوكيدَ اللَّفْظيَّ أوسع مجالاً من التَّوكيد المعنويِّ ...).
• ما في الصِّحابِ أخُو وَجْدٍ نُطارِحُهُ!
ثُمَّ يختمُ الطَّناحيُّ -رحمه الله- مقالتَه النَّافعةَ بقولِهِ: (وبعد: فإنِّي أخشَى أن تكون هذه الحِقْبة الَّتي نعيشها هي أسوأ الحِقَب الَّتي مرَّتْ بها العربيَّة والبيان العربيُّ. فإنَّ اللُّغات تنتعش أو تذوي باحترام أهلِها لها وممارستهم لها، وما أظنُّ لغتنا العربيَّة فيما يسمُّونه -خطأً وتسرعًا- بعصور الانحطاط الأدبيّ -وهو العصر العثمانيّ- لا أظنُّها في تلك الأيَّام إلاَّ أحسن حالاً، وأجمل بيانًا ممَّا هي عليه الآنَ.
والرِّثاء كلّ الرِّثاء لشبابِ هذه الأيَّام الَّذي يُخدعون عن تاريخهم وعن لغتهم فيما يقرأون وفيما يسمعون.
أمَّا أنا وأنت ومن يجري معنا في حُبِّ العربيَّة والبيان العربيِّ؛ فليس لنا إلاَّ الصَّبر نعتصم به ونفزع إليه، حتَّى يكشف اللهُ الكُرْبةَ، ويزيل الغُمَّة، ويردّ الغربة:
ما في الصِّحابِ أخو وجدٍ نطارِحُهُ ...... حديث نجدٍ ولا صَبٌّ نجاريه).
****************************
ـ[المفضل]ــــــــ[29 - 10 - 2011, 11:31 ص]ـ
رائع! رائع! رائع!
ورحم الله الأستاذ المحقق الجهبذ محمود الطناحي
ـ[محمد الرشيد]ــــــــ[08 - 11 - 2011, 05:44 م]ـ
هل المصدر هو نفسه الذي طبعته "دار الغرب" في جزأين؟
ـ[عائشة]ــــــــ[08 - 11 - 2011, 07:20 م]ـ
هل المصدر هو نفسه الذي طبعته "دار الغرب" في جزأين؟
الَّذي طَبَعَتْه دارُ الغرب هو: " في اللغة والأدب: دراسات وبحوث "، أمَّا الَّذي نقلتُ منه؛ فهو: " مقالات العلامة الدكتور محمود محمد الطناحي (صفحات في التراث والتراجم واللغة والأدب) "، وقد طبعتها دار البشائر الإسلامية في جزأين. فهما كتابان مختلفان.
ـ[محمد الرشيد]ــــــــ[09 - 11 - 2011, 02:45 ص]ـ
شكر الله لكِ يا عائش .. وأسعدكِ في الدارين
نقل جميل وموفّق .. نفع الله به
ـ[تألق]ــــــــ[23 - 12 - 2011, 01:44 ص]ـ
على قدر ما في المقالة من بيان رفيع ومعنى بديع ففيها من الألم على واقعنا ما يدمي القلب ويذيب الكبد، تجد طلاب الجامعة يتخرجون وكثير منهم لا يحسن أن يعرب كلامه فضلا أن يحسّن بيانه!
وقد واجهت من هؤلاء ما يشيب الرأس من حملة حرف (د) فكم سمعت في محاضرات من أستاذات وهن لا يحسنّ قراءة آية أو حديث!!
إلى الله المشتكى، وينبغي لأهل اللغة أن يقوموا بواجبهم، وفي الخاطر الكثير لكن لعله يكون في موضوع مستقل بحول الله وهو المعين.
أشكرك أختي عائشة وبارك الله فيك.