ملتقي اهل اللغه (صفحة 5658)

رُبَّما أَوفيْتُ في عَلَمٍ تَرْفَعَنْ ثَوبي شَمالاتُ

ـ[أبو سهل]ــــــــ[22 - 07 - 2008, 03:22 م]ـ

هكذا يقول جذيمةُ الوضَّاحِ قَتيلُ الزبَّاء، وسيِّدُ قومه المُملَّكُ عليهم، وأوَّل من اتّخذَ النُّدماء، وضُرِبَ المثلُ به في حُسنِ النِّدام، وأكثرتْ من ذكره الشُّعراء، إلى أنْ قال مُتَمِّمُ بنُ نُويْرة وهو يَرثي أخاه مالكاً:

وكُنَّا كنَدْمانَيْ جَذيمةَ حِقْبةً ... من الدَّهر حتَّى قيلَ لن يَتصدَّعا

وسمعتُ قول الشَّاعر وهو يقول:

وقُلّةٍٍ كَسنانِِ الرُّمح بارزةٍٍ ... ضَحْيانةٍ في شهور الصّيفِ مِحراقِ

بادَرْتُ قُنَّتها صَحْبي وما كَسِلوا ... حتّى نَميْتُ إليها بَعْدَ إشراقِ

وكُنتُ قد حفظتُ قَولَ الآخر، وهو المَرّارُ بنُ منقذٍ اليشكُري:

ظلَّ في أَعلى يَفاعٍ جاذِلاً ... يَقْسِمُ الأَمرَ كَقَسْمِ المُؤْتَمر

وقولَ الآخر:

ويظلُّ مُرْتَبِئاً عليها جاذِلاً ... في رأْسِ مَرْقَبةٍ ولأْياً يَرْتَع

وقولَ الشَّنفرى:

ألا لا تَعُدْني إنْ تَشكَّيْتُ خُلّةِ ... شفاني بأعلى ذي البُرَيْقَينِ غَدوتي

فوجدتهم يذكرون الجَذَلَ والشِّفاء، وما يَغْشاهم من السُّرور عند الاشترافِ من فوقِ القِمَمِ، والأماكن العاليةِ.

ثمّ وقَعْتُ على قولِ جَذيمةَ الأبْرشِ وهو الوضَّاح، وأنا أَجْردُ كتابَ ((الأَغاني)) لأبي الفَرَج الأصبهاني:

رُبَّما أَوفَيْتُ في عَلَمٍ ... تَرْفَعَنْ ثَوبي شمالاتُ

وقوله (أوفيتُ)، أي: أصعدتُ وارتقيتُ. و (العَلَمُ): الجبل، قالتِ الخنساءُ:

وإنَّ صخراً لتأتمُّ الهداةُ به ... كأنّه عَلَمٌ في رأسهِ نار

فلمَّا قرأتُ هذا الشعر راقني ما يقول، وحرَّك في نفسي حُبَّ الاستطلاع، وقلتُ: إنْ كان هناك لَذَّةٌ بَقِيتْ ففي هذا الذي يذكرونه، والذي يصفون من حال صاحبه ما يصفون، ولم يكن همي يومئذٍ إلا التَّوقُّلُ في الجبالِ [أي: الصعود في الجبلِ خاصَّةً]، وظننتُ أنَّه إنْ تَمّ لي ذلك فقد نازَعتُ العُقاب كِبْرَه، وزاحمْته في ذلك الشرَف.

ومعلومٌ أنَّ العقابَ أشدُّ الطَّيرِ الجارِحة فتْكاً، وأسرعُها انصباباً على صيده، فهو لا يكون في ذلك المكان، ولا في تلك العَلياءِ إلا إذا كانت بين يَديه فريسته، أو كان مُطِلاًّ عليها.

فمضَيْتُ إلى جبَلٍ قريْبٍ منا، يُدعا: (ساقاً)، وأنا لا أدري لأيِّ شيءٍ سُمِّي بهذا الاسم؛ فإن كانوا شبهوه بساق الإنسان فقد أبعدُوا في التشبيه، لأنَّ الذي رأيتُ شيءٌ لا يشبه الساق، وإنما هو بالعمود المُصْمَتِ أشبه؛ لامتناعه، وكونه أملسَ، ولو سمَّوْه قَرْناً لكان أجدرَ بهم، وإن كانوا سمَّوه: ساقاً لكثرةِ ما اندقَّ فيه من الأسوُق [جمع: ساق] فقد أصابوا!.

وانطلقتُ وفي رأسي تلك المعاني، والأبياتُ، وفيه مما لم أذكره أضعافٌ، فلمَّا صِرْتُ في أصلِ ذلك الجبل حَطَطتُ ما معي، وتخففتُ من الشماغ والطاقية، وقدّرْتُ في نفسي أنها رُبْعُ ساعةٍ، وإذا بي قد نزلتُ، ولبِستُ نعالي، ثمَّ مضيتُ موفوراً بسيارتي، فلمَّا صرتُ في نَعْفِه [أي في المكان الذي فيه غِلَظٌ، ولايصل إليه السيل]، أسرع قلبي في ضَرَبَانه قليلاً فتَجلَّدتُ، فلما وقعتُ في المكان الذي في وسط الجبل، وفارقتُ الأرض، واستوى الصعود عندي والنزول؛ - وهذا معنى لايعرفه إلا من جرَّب بنفسه -، أحسستُ كأنَّ شيئاً يجذبني من أسفلي شبيهًا بِرَسِّ الحُمّى أولَ ما تُخالطُ البدن، واضطربتْ مواضع قدمي، وجفَّ ريقي، وأنكرتُ من نفسي ما أثبتُّ، ولكن: لابدَّ من صنعا وإن طال السَّفر. وكنتُ في ذلك كما قال الشاعر:

فثبّتُّ ساقي بعد ما كدتُ أَعثرُ

فبَعدَ نَصَبٍ شديدٍ، وإلحاحٍ كالنَّملةِ، تَذرَّيْتُ سنامَه، وقد غَلى الدم في رأسي، وغطّى على عيْنَيَّ، وقلتُ بعد الذي لاقيتُ: ينبغي ألا يكون أحدٌ من الناسِ امتدَّتْ قدَمُه إلى هذا المكانِ قبلي، فلمَّا ثابتْ إليَّ نفسي طُفتُ في سطحه فوجدتُ آثاراً لا أثراً فحسبُ، فتذكّرتُ قولَ الحكيم زهير بنِ أبي سُلمى المُزني:

وإنِّي متى أَهْبِطْ من الأرضِ تَلْعةً ... أَجِدْ أَثراً قبلي جديداً وعافيا

ألا إنَّ المُعافى من عافاه الله، والسعيدُ من وُعِظَ بغيره، وأنتَ مادمتَ تُبصرُ في هذا المنتدى وتسمعُ، فإنَّك سامعٌ من يقول: قد ارتقيتُ ذلك الجبلَ المُنيفَ، وذلك الموضعَ المنيعَ، فلا يخدعنّك بهذا القول عن عقلك ُ، ولايُزيِّنَّنه له في نفسك، والله تعالى يقول: {هو الذي جَعَلَ لكم الأرضَ ذلولاً فا مْشُوا في مناكِبِها، وكُلُوا من رِزْقِهِ، وإليه النُّشُور}. ولمَّا عدا المرتَدُّون من طيّئ وأسدٍ في بُزاخةَ على الإسلام وأهلهِ أمرَ بهم خالدُ بن الوليد رضي الله عنه فَرُمِي بهم من الجبال، وجعَلَ ذلكَ عذاباً لهم.

كتبه:

أبو سَهْلٍ

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015