ليوافق حساب العَرَب، فإنَّ حسابَهم بالشُّهور القمريَّة؛ كالمحرَّم وصفر ونحوهما.
وانظُر -بعدَ هذا- إلى قوله: ((تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا)) [يوسف: 47] الآية، ولم يقل: أعوامًا؛ ففيه شاهد لِمَا تقدَّمَ، غير أنَّه قال: ((ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ))، ولم يقل: سنة؛ عدولًا عن اللَّفظ المشترك؛ فإن السَّنة قد يُعبَّر بها عن الشدَّة والأزمة -كما تقدَّم-، فلو قالَ: سنة؛ لذهب الوهمُ إليها; لأنَّ العام أقلُّ أيَّاما من السَّنة؛ وإنَّما دلَّت الرؤيا على سبع سنين شداد، وإذا انقضى العدد؛ فليس بعد الشِّدَّة إلا رخاءٌ، وليس في الرُّؤيا ما يدلُّ على مدَّة ذلك الرَّخاء، ولا يُمكن أن يكونَ أقلَّ من عامٍ، والزيادةُ على العام مشكوكٌ فيها، لا تقتضيها الرُّؤيا، فحكم بالأقلِّ، وترك ما يقع فيه الشَّكُّ من الزِّيادة على العامِ، فهاتان فائدتان في اللَّفظ بالعامِ في هذا الموطنِ.
وأمَّا قولُه: ((وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً)) [الأحقاف: 15]؛ فإنَّما ذكر السِّنين -وهي أطول مِنَ الأعوامِ-؛ لأنه مُخبرٌ عن اكتهالِ الإنسانِ، وتمام قوَّته واستوائه، فلفظ السِّنين أَوْلَى بهذا الموطنِ؛ لأنَّها أكمل من الأعوام. وفائدة أخرى: أنَّه خبرٌ عن السِّنِّ، والسِّنُّ معتبَر بالسِّنين؛ لأنَّ أصل السنِّ في الحيوان لا يُعتبر إلا بالسَّنة الشَّمسيَّة؛ لأنَّ النِّتاج والحمل يكون بالرَّبيع والصَّيف، حتَّى قيل: رِبْعِيّ للبكير، وصَيْفِيّ للمؤخر؛ قال الرَّاجز:
إنَّ بَنِيَّ صِبْيَةٌ صَيْفِيُّونْ ... أفلحَ مَن كَانَ لَهُ رِبْعِيُّونْ
فاستعملَه في الآدميِّين. فلمَّا قيلَ في الفصيل ونحوه: ابن سنة، وابن سنتين؛ قيل ذلك في الآدميِّين، وإن كان أصله في الماشية -لِمَا قدَّمْنا-.
وأمَّا قوله: (وحملُه وفصالُه في عامَيْنِ) [كذا، والصَّوابُ: ((حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ)) [لقمان]]؛ فلأنَّه قال سبحانه: ((يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ)) [البقرة: 189]؛ فالرضاع من الأحكام الشرعيَّة، وقد قصرنا فيها على الحساب بالأهلَّة، وكذلك قوله: ((يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا)) [التوبة: 37]، ولم يقل: سنة؛ لأنه يعني شهر المحرم وربيع إلى آخر العام، ولم يكونوا يحسبون بأيلول ولا بتشرين ولا بيَنير، وهي الشُّهور الشَّمسيَّة.
وقوله سبحانه: ((فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ)) [البقرة:259]: إخبارٌ منه لمحمَّد صلى الله عليه وسلم وأمَّته، وحسابُهم بالأعوام والأهلَّة، كما وقَّت لهم سبحانه.
وقوله سبحانه في قصَّة نوح: ((فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا)) [العنكبوت: 140] قيل: إنَّما ذكر أوَّلا السنين؛ لأنَّه كان في شدائد مدَّته كلّها، إلَّا خمسين عامًا منذ جاءه الفرجُ، وأتاه الغوثُ، ويجوز أن يكون الله سبحانه عَلِمَ أنَّ عمره كان ألفًا، إلا أنَّ الخمسين منها كانت أعوامًا، فيكون عمره ألف سنة تنقص منها ما بين السنين الشمسية والقمرية في الخمسين خاصَّة؛ لأن خمسين عامًا بحساب الأهلة أقلّ من خمسين سنة شمسية بنحو عام ونصف، فإن كان الله سبحانه قد علم هذا من عمره؛ فاللَّفظ موافق لهذا المعنَى، وإلا ففي القول الأوَّل مقنع، والله أعلم بما أراد.
فتأمَّل هذا؛ فإنَّ العلم بتنزيل الكلامِ، ووضع الألفاظ في مواضعها اللائقة بها؛ يفتح لك بابًا من العلم بإعجاز القرآن، وابن هذا الأصل تعرف المعنى في قوله تعالى: ((فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)) [المعارج: 4]، وقوله تعالى: ((وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ)) [الحج: 47] وأنَّه كلام ورد في معرض التَّكثير والتَّفخيم؛ لطول ذلك اليوم، والسنةُ أطولُ من العام -كما تقدَّم-؛ فلفظُها أليق بهذا المقام) انتهى.
ـ[السئول]ــــــــ[09 - 05 - 2011, 09:33 ص]ـ
لماذا إذا قالوا عام الفيل على ما فيه من شر وبلاء؟؟
ـ[البدر]ــــــــ[21 - 05 - 2011, 07:58 م]ـ
جميل طرحكم.
اضافة لما طرحه أخي السئول,
(عام الرمادة) مع مافيه اختبار وبلاء للمسلمين!!
بارك الله في الجميع
ـ[أبو حفص]ــــــــ[04 - 06 - 2011, 01:12 م]ـ
ويُقال عام الحزن!
ولا يصحّ.
والجواب عن هذه الأسئلة: أنَّها مِن وضعِ المتأخّرين من كُتَّاب السِّيَر والتاريخ ..
ولا أعلَمُ أنهم كانوا يسمّون تلك الأزمنة بهذه الأسماء.
والله أعلَم -فقد أكون واهماً-.
ـ[أبو حفص]ــــــــ[04 - 06 - 2011, 01:23 م]ـ
اطلعتُ على جواب الأستاذ الفاضل أبي قصي؛ فراقني رأيه وتوجيهه، إلا أنَّني أحبُّ أن أجمع بين الرأيين! وليس ذلك بعسير.
فمنع الترادف إنما المقصود منه أن ليس في اللغة العربية كلمة تشبه الأخرى -تماماً- بكل ما تعنيه الكلمة.
وإثبات الترادف -أحياناً- للتنوّع وحسن الخطاب لا يعني المشابهة التامة من كل الوجوه.
وكِلا الرأيين يُثْبِتُ الفصاحة البديعة والبلاغة في اللغة العربية.
ومراعاة استعمال كليهما عند المتمرِّسِين والعالِمين بهذا الشأن يُعدُّ مِن معجزات الله تعالى التي وضعَها في بعض بني البشر.
وتقبَّلوا خالص شكري وتقديري.
أخوكم: أبو حفص الكرخي.