والمَعْبَر: شطّ نهرٍ هُيّء للعُبور. والمِعْبَر: سفينة يُعبَر عليها النّهر؛ ورجل عابرُ سبيلٍ، أي مارّ، قال الله تعالى: {وَلاَ جُنُبًا إلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} (النساء43). ومن الباب العَبْرَة، قال الخليل: عَبْرَة الدمع: جَرْيُه، قال: والدَّمع أيضًا نفسُه عَبْرَة، قال امرؤ القيس:
وإنّ شِفائي عَبْرَةٌ إن سَفَحتُها فهلْ عند رسْمٍ دارسٍ من مُعَوَّلِ
وهذا من القياس، لأنَّ الدّمع يعبُرُ، أي ينفُذ ويَجري، والذي قاله الخليل صحيحٌ يدلٌ على صِحّة القياس الذي ذكرناه.
وقولهم: عَبِرَ فلانٌ يَعْبَرُ عَبَرًا من الحزن، وهو عَبْرَانُ، والمرأةُ عَبْرَى وعَبِرَةٌ، فهذا لا يكون إلاَّ وثَمَّ بكاء؛ ويقال: استَعْبَرَ، إذا جَرَتْ عَبْرَتُه، ويقال من هذا: امرأةٌ عابر، أي بها العَبَر، وقال:
يقولُ لي الجَرْمِيُّ هل انت مُرْدِفِي وكيف رِدَافُ الفَلّ أمُّك عابِرُ
فهذا الأصل الذي ذكرناه. ثم يقال لضرب من السدر عُبْرِيٌّ، وإنما يكون كذلك إذا نَبَتَ على شُطوط الأنهار ـــ والشّطُّ يُعْبَرُ ويعبر إليه ـــ قال العجاج:
لاثٍ بها الأشاءُ والعُبْرِيُّ
الأَشَاء: الفَسِيل، الواحدة أَشَاءة، وقد ذكرناه؛ ويقال إنّ العُبْريَّ لا يكون إلاّ طويًلا، وما كان أصغَرَ منه فهو الضَّالُ، قال ذو الرُّمَّة:
قد قَطعْتُ إذا تجوّفت العواطِي ضُرُوبَ السّدْرِ عُبْرِيًّا وضَالا
ويقال: بل الضّالُ ما كان في البَرّ.
ومن الباب: عَبَرَ الرُّؤْيا يعبرها عَبْرًا وعِبارة، ويُعبّرُها تعبيرًا، إِذا فسَّرَها، ووجه القياس في هذا عُبُور النَّهْر، لأنه يصير من عَبْر إلى عَبْر؛ كذلك مفسّر الرُّؤيا يأخُذُ بها من وجهٍ إلى وجهٍ، كأن يُسأل عن الماء، فيقول: حياة، ألا تراه قد عَبَر في هذا من شىءٍ إلى شىء.
ومما حُمِل على هذه: العِبارة، قال الخليل: تقول: عَبَّرت عن فلانٍ تعبيرًا، إذا عَيَّ بحُجّته فتكلَّمت بها عنه، وهذا قياسُ ما ذكرناه، لأنّه لم يقدِر على النُّفوذ في كلامه فنفَذَ الآخَر بها عنه.
فأمّا الاعتبار والعِبْرة فعندنا مقيسانِ من عِبْرِيْ النَّهر، لأن كلَّ واحدٍ منهما عِبرٌ مساوٍ لصاحبه: فذاك عِبرٌ لهذا، وهذا عِبرٌ لذاك، فإذا قلت اعتبرت الشَّىء، فكأنك نظرتَ إلى الشَّىء فجعلتَ ما يَعْنِيك عِبرًا لذاك، فتساويا عندك، هذا عندنا اشتقاقُ الاعتبار؛ قال الله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي اْلأَبْصَارَ} (الحشر2)، كأنّه قال: انظروا إلى مَنْ فعل ما فَعل فعُوقِب بما عوقب به، فتجنَّبوا مثلَ صنيعهم لئلاَّ ينْزل بكم مثلُ ما نَزَل بأولئك ـــ ومن الدَّليل على صِحَّة هذا القياس الذي ذكرناه، قولُ الخليل: عَبَّرت الدَّنانيرَ تعبيرًا، إذا وزَنْتَها دينارًا (دينارًا)، قال: والعِبرة: الاعتبارُ بما مضى.
ومما شذَّ على الأصل: المُعْبَر من الجِمال: الكثير الوَبر، والمُعْبَر من الغِلمان: الذي لم يُخْتَن، وما أدرِي ما وجهُ القياس في هذا، وقال في المُعْبَر الذي لم يُختَن بشرُ بن (أبي) خازم:
.... وارمُ العَفل مُعْبَرُ
ومن هذا الشّاذّ: العبير، قال قوم: هو الزَّعفران. وقال قوم: هي أخلاط طِيب.
فرس الفاء والراء والسين أُصَيل يدلُّ على وطءِ الشَّىء ودقّه. يقولون: فَرَسَ عنقه، إذا دقَّها، ويكون ذلك من دقّ العُنق من الذَّبيحة؛ ثم صيّر كلُّ قتلٍ فَرْسا، يقال: فرَسَ الأسدُ فريستَه، وأبو فِراسٍ: الأسد. وممكنٌ أن يكون الفَرَس من هذا القياسِ، لركلِهِ الأرضَ بقوائمه ووَطْئِه إيَّاها؛ ثمَّ سمّيَ راكبُه فارسًا، يقولون: هو حسَنُ الفُروسيَّة والفَراسة. ومن الباب: التفرُّس في الشَّىء، كإِصابة النَّظر فيه، وقياسه صحيح.
باب ما جاء من كلام العرب على أكثَر من ثلاثة أحرف
اعلم أنّ للرُّباعيّ والخُماسيّ مذهباً في القياس، يَستنبِطه النَّظرُ الدَّقيق. وذلك أنّ أكثر ما تراه منه منحوتٌ، ومعنى النَّحت أن تُؤخَذَ كلمتان وتُنْحَتَ منهما كلمةٌ تكون آخذةً منهما جميعاً بحَظَ. والأصل في ذلك ما ذكره الخليل من قولهم حَيْعَلَ الرَّجُل، إذا قالَ حَيَّ عَلى.
ومن الشيءِ الذي كأنَّه متَّفَقٌ عليه قولهم عَبْشَمّى: وقوله:
... تَضْحَكُ مِنِّي شَيْخَةٌ عَبْشَمِيَّةٌ
¥