ملتقي اهل اللغه (صفحة 4138)

وهذا مثال أو مثالان لتوضيح الفكرة (راجيا من القراء الكرام إغناء هذا المعجم بمزيد من المفردات)

1 - ممتاز،متميز ..

جل الناس اليوم يفهمون من الكلمة تقييما لا وصفا ... فالشيء الممتاز هو ما جاء على أعلى درجة في الاستحسان .. وقد كان مدرسنا قديما عندما يضع درجات الأجوبة يستعمل مفردات من قبيل "ضعيف" "متوسط"" لا بأس به" أو" جيد" .. ولكن إذا جاءت ورقة الجواب في الكمال المطلوب يضع لها علامة "ممتاز"وهي منتهى التقييم الحسن ..

فأصبح" التميز" في عرف الناس مرادفا للأفضل أو الأحسن ..

وهذا غلط مبين ...

فليس الامتياز في لغة العرب تقييما بالإيجاب بل هو وصف محايد لا يدل على خير أو شر .. فكل ما يتميز عن غيره،وتلحظه العين منفصلا عن الأشباه والنظائرفهو ممتاز ..

قال تعالى:

{وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} يس59

أي انفردوا عن المؤمنين (عند اختلاطهم بهم ...)

لكن الفهم العصري للكلمة يحرفها إلى معنى آخر .. وقد يقول الجاهل منهم" في الآية استعارة تهكمية شبه فيها أخس الدرجات بأشرفها!!!

2 - الذرة:

المستعملون لهذه الكلمة واقعون اليوم تحت تأثير الخطابات العلمية، مقروءة ومسموعة ومرئية، فيشحنونها بمعاني جديدة- لم يعرفها العرب مبتكرو تلك الكلمة -ويفرغونها من معانيها العربية الأصيلة ..

فمدار معنى الذرة في العربية على الوزن والحجم، ومدارها في علوم العصر على الجزء المكون للعالم ولأشيائه .. فمعرفة العربي لمعنى الذرة لا تربو عن معرفته لأي معنى في كلمة أخرى، ولكن في علوم العصر يكون معرفة الذرة هو فهم العالم نفسه ... فانظر إلى الفرق الشاسع بين الاصطلاحين!!

قال ابن عاشور في تفسير قوله تعالى:

إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)

"والمثقال ما يظهر به الثِّقَل، فلذلك صيغَ على وزن اسم الآلة، والمراد به المقدار.

والذَّرة تطلق على بيضة النمْلة، وعلى ما يتطاير من التراب عند النفخ، وهذا أحقر ما يقدُر به، فعلم انتفاء ما هو أكثر منه بالأولى".

قلت: بيضة النملة وهباء التراب ليست ذرة،بل هي ملايير الذرات في اصطلاح الفزياء .. ويقولون إن في الكأس الواحدة من ذرات الماء أكثر مما يوجد في كل محيطات الدنيا مجتمعة من كؤوس الماء!!!

وهو معنى خرافي لا يستطيع أن يتصوره بدوي ولا حضري، فكيف يوجدان له اسما!!

ثم يزعمون أن قوله تعالى:

وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ..

إشارة إلى تقسيم الذرة ومكوناتها من البوزترونات والنيوترينوات وغيرها .. وكل هذا هراء ..

لأن ما هو أصغر من الذرة في المعنى القرآني هي ملايير الذرات في المعنى الفزيائي .. فلم تستقم لهم العربية ولا استقامت لهم الفزياء!!

والذرة في الاستعمال العربي، من جهة أخرى، توزن بها المعنويات والماديات على السواء .. ففي الأعمال مثقال ذرات وفي الإيمان مثقال ذرة ... أليس يلزمهم القول إن ذرة الإيمان مكونة من نوات وإلكترونات!! .. أو يستعينون بالمجاز فيقولون الذرة في الجسميات حقيقة وهي في المعنويات مجاز!!

3 - رائع، هائل ..

لم تأت الصفتان في القرآن بهذا الوزن ولكنني أحببت التمثيل فقط ..

فقد شاعت كلمة "رائع"شيوعا عظيما .. فاللاعب رائع،والهدف في الكرة رائع، والمسلسل رائع، أيها الرائع إليك هذه الوردة الرائعة! بل .. أثمان الكعك في المعرض التجاري رائعة ..

يستقرؤ الجاهل هذه الاستعمالات .. ويستنبط بها أن الروعة هي غاية الجمال والحسن .. فكلما ازداد جمال الشيء استحق أن يكون رائعا!!

وهذا غلط ..

فالرائع مشتق من الروع،كما أن الهائل مشتق من الهول!

والروع والهول من درجات الخوف ..

وعلى صحة إطلاقهما على الجميل يكون الملحوظ في الشيء ضخامته وعظمته فيكون الشعور بالجمال مقترنا بالشعور بالخوف ..

فيصح قولك" بحر رائع "و"ليل هائل" .. ولكن أي شيء يخيف في الوردة لتصفها بالروعة .. ! وهل أدرك المستشهرون أن قولهم "عندنا أثمنة رائعة" يدعو إلى الإدبار أكثر من الإقبال!!

وقد قرأت قديما للدكتور عبد الكريم اليافي-رحمه الله- (لعله كتاب دراسات فنية في الأدب العربي – دمشق 1972) كلاما مفصلا في الفرق بين كلمتي الروعة والجمال .. ذكر منه ما قلت قبل قليل .. إلا أنني لم أعد أتذكر هل كان ينحت مصطلحا في علم الجمال أم ينقح الدلالة العربية في الكلمتين ... وعلى التقدير الثاني يكون القول الفصل لاستقراء استعمالات "جميل" و"رائع" في اللغة العربية .. وحسبنا هنا تقديم المثال على جناية الاستعمال الخاطيء المتكرر على الدلالة الصحيحة للكلمة، والدعوة إلى صيانة مفردات القرآن العربي من أن يتسرب إليها معاني ملوثة!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015