ـ[فيصل المنصور]ــــــــ[05 - 06 - 2012, 05:05 م]ـ
شكرَ الله لك يا أبا حيان، فقد تكلَّمتَ كلامًا حسنًا. وأنا أعلَم أنه لم يحمِلك على ذلك إلا طلبُ الحقِّ، والرغبةُ فيه. وإني لأسَرُّ بذلك حتَّى وإنْ كانَ مخالِفًا لرأيي.
وأنا لا أدفَع أنَّ ما رأيتَه له وجهٌ من الصِّحَّة. وهو قولٌ قالَ به جَمع من العلَماءِ، إلا أنَّ الذي جعلَني آبَاه، وأفِرُّ منه إلى القولِ باشتقاقِ (المجرَّم) من (الجِرْم) أمورٌ، منها:
1 - أنَّه لا تفسيرَ لدلالةِ (المجرَّم) على التامِّ، ولا كيفَ انتقلَت مِن معناها الحقيقيِّ، وهو (المقطوع) إلى معنَى (التامِّ)، ولا يَظهرُ لي سببٌ مجازِيّ يوصِلُ إلى ذلك. ولو جازَ هذا، لجازَ أن تقولَ: (مرَّ شهرٌ مَقطوعٌ) تريد (تامًّا)، و (قضَينا سنةً منصرِمةً) تريدُ (تامَّة). فإذا امتنعَ أن تَدُلَّ (المقطوعة)، و (المنصرِمة) على معنى (التامَّة)، فكيفَ ساغَ أن تدُلَّ (المجرَّمة) على معنى (التامَّة)؟ لأنَّ سبيلَ المجازِ واحِدٌ. ولا يخفَى أن ألفاظَ العربيَّة لا تتغيَّر معانيها اعتِباطًا، وإنَّما تمضِي في ذلك على سَننٍ معرُوفٍ، وقوانينَ محكَمةٍ.
ونعم. قد يقالُ: (انقطَع الحول) كما يقال: (ذهبَ، ومرَّ، ومضى، وانقضى)، ولكنَّ هذه كلّها لا تنصُّ بدلالةِ الوضع على التَّمامِ، ولا ترفعُ شبهةَ التجوُّز، والاتّساع. ولو كانَت كذلك، لكفاكَ أن تقولَ: (مرَّ حولٌ، وانقطعَ حولٌ، ومضى حولٌ)، ولم تحتَج إلى أن تأتِي بلفظٍ دالٍّ على معنَى التّمام، كـ (مجرَّم)، و (كريتٍ)، و (تامٍّ)، و (كامِل)،ونحوها.
2 - أنَّه لو كانَ (المجرَّم) بمعنى المقطوعِ، لكان الوجه أن يقال: (المجروم)، لأنَّ من عادتِهم أن لا يبنُوا الفِعلَ المتعدِّي بنفسِه على (فعَّل) إلا لإرادةِ تكريرِ معناه. ولهذا فإنك إذا رمتَ أن تشرحَ (المجرَّم) شرحًا دقيقًا، قلتَ: (هو المقطَّع)، وليس (المقطوع). وهذا لا يستقيمُ، لأنَّ حقَّ الأزمنة كالشهر، والسنةِ، ونحوها أن تكونَ مقطوعةً، لا مقطَّعةً، لأنَّ معنى قولك حين إذٍ: (حولٌ مجرَّمٌ) هو (حولٌ مقطَّعٌ). هذا لو صَحَّ تفسيرها بالقَطْع.
فأمَّا ما احتججتَ به من أنّهم قالوا: (حولٌ مجرَّد)، وأنَّ معنى التجريد قريبٌ من القَطع، وإذن يجوز أن يكونَ (المجرَّم) بهذا المعنى، فغيرُ صحيحٍ، ولا مقبولٍ، فشتَّانَ ما هذانِ المعنيان!
وأما ذكرُك (تصرَّم)، وأنَّه إذا كانَ (التصرُّم) بمعنى الانقطاعِ، فما الذي يَمنع من أن يكونَ (تجرَّم) بهذا المعنَى؟ فإني لم أمنَع ذلك من جهةِ المعنى، فالليلُ، ونحوه قد يوصَف بذلك، ولكنَّ (التجرُّم) مشتقّ من (جرَّمَه، فهو مجرَّمٌ)، فكان ينبغِي أن تثبِت معنى الأصلِ لتستدِلَّ به على معنى الفَرع. وذلك بأن تأتِي بما يشهَد على أن العربَ يقولون: (شهر مقطوعٌ، أو مصرومٌ) وهم يريدونَ (تامًّا)، وأن تبيِّن كيفَ كانَ معنى القَطْع دالاًّ على معنى التَّمام، ومفضيًا إليه.
وأمّا ما حكاه صاحبُ العينِ، وهو قولُهم: (جرَّمنا القومَ)، فإن صحَّ، فتأويلُه أنَّهم لما كانوا يقولون: (جرَّمنا السنةَ، ونحوَها) وهم يريدونَ: أتممناها، وأكملناها، فهِموا أنَّ إتمام السنة، وإكمالها يستلزِم الخروج عنها، فأصبَحوا يستعمِلونَ (جرَّمَ) تارةً بمعنَى أتمَّ، وأكملَ، وتارةً بمعنى خرجَ، وفارقَ. والذي سَهَّلَ لهم ذلكَ أنهم لا يستعمِلونَ (جرَّمَ) إلا في الأزمنةِ، وإتمامُ الأزمنةِ يقتضي الخروجَ عنها، ومفارقتَها.
ـ[صالح العَمْري]ــــــــ[05 - 06 - 2012, 05:26 م]ـ
أعتذر إليكم يا شيخنا الحبيب أبا قصي من الحِدَّة إن كنتَ وجدتَها في كلامي، وأنت شيخنا وأستاذنا، وإنما هذا من أُنس التلميذ بشيخه واطراح الكلفة بينهما.
ـ[فيصل المنصور]ــــــــ[06 - 06 - 2012, 01:49 م]ـ
حفِظَك الله، ووفقَك.
ما رأينا منك إلا أدبًا جمًّا، وخُلُقًا كريمًا سَمحًا. وأنا أخوكم، ولست بشيخكم.