ـ[محمد تبركان]ــــــــ[29 - 08 - 2012, 10:11 ص]ـ
قبل استعراض هذه المقالة لابُدّ لي من الإقرار بأنّ ما دبّجته يراعة الفاضل: فيصل المنصور في حلقة النّحو والصّرف تحت عنوان (تقويم التّقييم) يكاد يكون لا مزيد عليه لولا أنّ العلم يأبى ذلك.
بَيْنَ التَّقْيِيمِ وَالتَّقْوِيم (1): هذا مبحثٌ لطيفٌ قَصَرْتُ الكَلِمَ فيه على لَفظتين فُرِّقَ بينهما في الاستعمال، تَبَعًا للتَّفريق بينهما في الدَّلالة. وهو أمرٌ مخالفٌ لأصلِ الوَضْعِ، ومُبايِنٌ لِسَنَن العربِ في الكلام.
أمّا بشأنِ الغَلَط، فهو تَوظِيفُهُم لكلمةِ: (تَقْيِيم) لِتَدُلَّ على معنى: إبرازِ وتحديدِ قيمةِ الشَّيءِ ومحصِّلتِه ونتيجتِه.
وتَوظيفُهم لكلمة (التَّقْوِيم) لِتَدُلَّ على معنى: إصلاح المُفسد، وإقامة وتَعديل المُعْوَجّ.
وهذا التّفريق بين هاتين اللّفظتين من حيث التّباين في الدّلالة، غير معروف (2) في لسان العرب، ولا لهجَ به علماءُ العربية وأئمّةُ اللّغة فيما حَبَّرَتْهُ أيديهم من صُنُوف الآداب، ولا فيما رَسَمُوه لنا من أصول اللّغة.
ومَن أمعنَ النَّظرَ في كلا اللّفظتين (تقويم) و (تقييم) تبيّنَ له أنّ مَخرجَهما واحدٌ وهو الفعلُ (3) (ق وم)؛وعِلمي: أنّ المعاجم خَلَتْ من الفعل (ق ي م)؛لأنّ العربَ أهملتْ هذا التّركيب فلم تُوظِّفه في مَلفوظ اللّسان، ولا مَرسوم الكتاب.
ويمكنُ أن يقال: إنّ المصدرَ (تقييم) وليد (4) المصدر (تقويم)؛أُبدلت فيه الواو ياءً لوجود المناسبة بين الكسرة والياء. وقريبٌ من هذا قوله في معجم الأخطاء الشائعة (ص212 رقم 885): (لأنّ الفعلَ [قَوَّمُوا] واويٌّ أمّا كلمة (قِيمة)،فياؤُها منقلبةٌ عن واوٍ. وفي الإعلال أنّ كلَّ واوٍ تُقلَبُ ياءً إذا كانت ساكنةً وكُسِرَ ما قبلها " (5).
وعليه فرأيي أن يقال: إنّ كلا اللّفظتين تَحملان الدَّلالة نفسَها، ثمّ يأتي السّياقُ (6) ليحدِّد المعنى المراد؛ فالسّياقُ كما قيل من المقيِّدات.
وعلى ما سبق؛ يقال: إنّ المصدر (تقويم) هو الثّابت من حيث اللّغةُ؛ فهو الأولى بالتّوظيف في كلا الدّلالتين؛ لأنّه الأصل، والمصدر (تقييم) هو في حقيقته متفرِّعٌ عنه؛ ومنبثقٌ منه (7)؛ولذلك لا تكاد تجد أحدًا من المتقدّمين وظّفه (تقييم) في ثنايا لفظه، ومرقوم كتابه.
نعم، لقد وظّفه كلٌّ من:
1. الأصفهانيّ في الأغانيّ (10/ 95) و (21/ 95).
2. الفيُّوميّ في المصباح المنير (ص309 ع2).
3. أصحاب الفضيلة في المعجم الوسيط (ص771ع2) و (ص854ع3).
لكنّهم جميعًا ليسوا من روّاة اللّغة، حتّى يصحّ اعتماد توظيفهم لهذه اللّفظة (تقييم) على أنّها من مفردات اللّغة.
وبعدُ، فإليك – أخي – أسوق شيئًا من تقريرات أئمّة اللّغة، وبعضًا من نظم الشّعراء الفحول، والّتي تَروِي عن العرب سَنَنَهُم في توظيف هذه اللّفظة (تقويم).فمن أشعارهم قول:
1. علقمة بن عَبَدَة الفحل (8): وَفِي الشِّمَالِ منَ الشَّرْيَانِ مُطْعَِمَةٌ * كَبْدَاءُ فِي عَجْسِهَا عَطْفٌ وَتَقْوِيمٌ.
2. حاتم الطّائيّ، قال (9): وَعَوْرَاءَ أَعْرَضْتُ عَنْهَا فَلَمْ تَضِرْ * وَذِي أَوَدٍ قَوَّمْتُهُ فَتَقَوَّمَا
3. وأنشدَ (10) ابن الأعرابيّ في صفة النّساء:
هِيَ الضِّلَعُ العَوْجَاءُ لَسْتَ مُقِيمُهَا * أَلَا إِنَّ تَقْوِيمَ الضُّلُوعِ اِنْكِسَارُهَا
أَيَجْمَعْنَ ضَعْفًا وَاِقْتِدَارًا عَلَى الفَتَى * أَلَيْسَ عَجِيبًا ضَعْفُهَا وَاِقْتِدَارُهَا
4. رُؤْبَة (11): كَسََّر مِنْ عَيْنَيْهِ تَقْوِيمُ الفُوَقْ * وَمَا بِعَيْنَيْهِ عَوَاوِيرُ البَخَقْ
5. أبو العلاء المعرِّي: وَكَيْفَ أَرُومُ تَقْوِيمَ اللَّيَالِي * وَقَدْ بُنِيَتْ عَلَى خَتْلٍ وَخَتَرْ؟
6. شاعر (12): قَدْ عَلِمَتْ دَلْوُ بَنِي مَنَافٍ * تَقْوِيمَ فَرْغَيْهَا عَنِ الجِحَافِ
7. قال عبد الله بن همام السّلوليّ (13):
فَقَبْلَكَ مَا كَانَتْ تَلِينَا أَئِمَّةٌ * يَهُمُّهُمْ تَقْوِيمَنا وَهُمْ عُضْلُ.
8. قال أبو الفتح ذو الكفايتين ابن أبي الفضل ابن العميد (14):
بَطَرْتُمْ فَطِرْتُمْ وَالعَصَا زَجْرُ مَنْ عَصَا * وَتَقْوِيمُ عَبْدِ الهُونِ بالهُونِ رَادِعُ
ومن كلام الأئمّة قول:
¥