ـ[صالح العَمْري]ــــــــ[06 - 01 - 2013, 12:08 ص]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه مسألة مهمة جدا، تحتاج إلى بحث وتحرير، وقد تكون سببا لتغيير أشياء رسبت في قلوب الناس وعقولهم، واستحكمت فيها، ولو أني أعلم من نفسي نشاطا وهمة لبحثتها، ولكني أعلم من نفسي أنها لا تنشط لأمثال هذه المسائل، فقلت: لعل رجلا جادا يأخذ مني هذه فيأتي فيها بقول فصل.
وذلك أن الناس اليوم لا يكادون يختلفون في أن الجوهري -رحمه الله- هو أول من ابتكر هذا الترتيب للمعاجم، وقد ذكر بعضهم (ديوان الأدب) للفارابي وغيره، ورُدَّ ذلك عليهم، فلا يكاد أحد اليوم ينازع في سبق الجوهري إلى ذلك.
وقد كنت أعتقد ذلك حتى قرأت في كتاب (المقتضب من كلام العرب في اسم المفعول من الثلاثي المعتل العين) لابن جني، فوجدته قد رتب هذه الأسماء مثل ترتيب الصحاح، ورد الألفاظ إلى أصولها وجردها من زوائدها، ورتبها على الحرف الأخير وهو لام الكلمة، ثم عرض فاءها على حروف المعجم أيضا، كما فعل الجوهري.
وابن جني توفي سنة 392هـ، والجوهري توفي سنة 393هـ وقيل: 396هـ، وقيل: 398هـ، وقيل: 400هـ، أي بعد وفاة ابن جني.
وقد وضع محقق كتاب (المقتضب) عبد المقصود محمد عبد المقصود في مقدمة الكتاب نص الإجازة التي كتبها ابن جني لأبي عبد الله الحسين بن أحمد بن نصر سنة 384هـ، ليروي عنه كتبه ومصنفاته، وفيها:
"قد أجزت للشيخ أبي عبد الله الحسين بن أحمد بن نصر -أدام الله عزه- أن يروي عني مصنفاتي وكتبي مما صححه وضبطه عليه أبو أحمد عبد السلام بن الحسين البصري -أيد الله عزه-: عنده منها كتابي الموسوم بالخصائص وحجمه ألف ورقة ...
...
وكتابي في اسم المفعول المعتل العين من الثلاثي على إعرابه في معناه، وهو المقتضب ...
... "
فقد ذكر في هذه الإجازة كتاب (المقتضب) كما ترى، وقد كتبها سنة 384هـ، فقد صنف هذا الكتاب قبل سنة 384هـ، فقد يكون في بضع وسبعين، ونحو ذلك، والجوهري توفي بعد سنة 393هـ.
والذي نريده أن نعرف متى ألف ابن جني كتابه (المقتضب)، ومتى ألف الجوهري كتاب (الصحاح)، فإن كان ابن جني ألف كتابه قبل الجوهري، فإن له السبق في هذا النظام، بلا شك ولا مرية، فإنه كترتيب كتاب الصحاح حذو القذة بالقذة، وأنا ناقل من أوله شيئا يسيرا، قال ابن جني:
"ونحن نسوق هذه الحروف على تأليف حروف الإعجام، ليقرب أمرها على طالب الحرف منها، ونجعل ذلك الحرف قافية الكلمة ولامها، ثم نُمِرُّ فاءها على الحروف المعجمة أيضا ما أمكن ذلك شيئا فشيئا، ليكون ذلك أشد انكشافا وأقرب مأخذا."
ثم أتى بحرف الهمزة وحرف الباء إلى آخر الحروف، وقال في حرف الهمزة:
"تقول: هذه حال مَبُوء بها ...
وعدوك مَسُوء.
والرجل مَشوء، أي: محزون ...
ويقال: هذا بلد مطوء فيه ... "
فهذا هو ترتيب الصحاح، على قَدِّه وتمامه، فإنه بدأ بباب الهمزة، ثم أتى على الجذور في هذا الباب، فأتى بـ (ب وأ) ثم (س وأ) ثم (ش وأ) ثم (ط وأ) ثم (ن وأ) ثم (هـ وأ)، وهكذا.
فلما فرغ من الواو ذهب إلى الياء، لأن اسم المفعول من الثلاثي المعتل العين يكون بالواو أو بالياء، فبدأ بالتي جاءت بالواو، ثم أتى بالتي جاءت بالياء، فقال: "الياء منه:
الحق مجيء إليه ...
والجميل مَشيء، أي: مراد ...
وهذا مكان مفيء إليه ... "
فأتى بـ (ج ي أ) ثم (ش ي أ) ثم (ف ي أ)، وهكذا في سائر الكتاب.
والفرق بينهما أن ابن جني فصل ذوات الواو من ذوات الياء، أما الجوهري فأوردهما في فصل واحد، فتجد في باب الهمزة، في فصل السين: (س وأ) ثم (س ي أ)، ثم يذهب إلى فصل الشين.
وابن جني يأتي على كل ما في الواو من فصول، ثم يذهب إلى الياء فيأتي على ما فيها من فصول.
وخاتمة الكلام أن أقول: لو وجدتُ هذا في كتاب عالم غير ابن جني، لقلت: قد يكون تابعا للجوهري، ولعله لا يستطيع ابتكار مثل هذا.
أما ابن جني، في علمه بالصرف، وعبقريته، وإتيانه بأشياء كثيرة لم يُسبق إليها، فلا أستبعد أن يكون هو مبتدع هذا النمط، وأبا عذره.
ولعل أحدا يبحث هذه المسألة ويوفيها حقها من البحث، وينفع الناس بها، ولا أريد منه أن يذكرني بحرف ولا نصف حرف، بل حسبي أن يستبين هذا الأمر للناس، لترد الحقوق إلى أصحابها إن كانوا أصحابها وأولى بها، وإن كانت للجوهري بقي الأمر على ما كان عليه.
وبالله التوفيق.