فهب أن الأبيات كلها لم يعرفها أحد من الناس، أما كان ينبغي أن يكون بعضها منسوبا إلى شاعر، ولو كان هذا البعض قليلا لا يزيد عن عشرين أو ثلاثين من سبع مائة، أما أن تكون كلها لا يعرف قائلها، ولم يسند إنشادها وروايتها إلى أحد من أئمة الرواة والعلماء، كأن يقال: أنشد الكسائي أو الفراء أو المبرد أو ثعلب أو الأخفش أو غيرهم، وإن لم يُسَمِّ صاحب البيت، لكن يذكر على أقل حال من الذي أنشده وفي أي كتاب وقع.
وأنتم تقولون: ابن مالك واسع الاطلاع.
ونحن نقول: هذه حجة عليكم، لأنه إذا كان واسع الاطلاع اقتضى ذلك أن يكون قد علم بأن هذه الأبيات لا تكاد توجد في شيء من الكتب، وأن العلماء من أهل عصره وممن بعدهم قد ينكرونها عليه لعدم معرفتهم بها، فكان ينبغي أن يقول: هذا من كتاب كذا، وهذا أنشده فلان.
وإنما لم يفعل لأنه هو الذي وضعها.
ولا نقول: يلزم كل من ألَّف في النحو واستشهد ببيت من الشعر أن ينسبه إلى قائله، أو يذكر من أين أخذه، فإن من الشواهد أبياتا معروفة مشهورة، يعلم المصنف أن الناس يعرفونها، وما لا يعرفونه منها يستطيعون أن يقفوا عليه بالبحث لأنه موجود في الكتب المعروفة.
أما أن يكون الرجل واسع الاطلاع على كتب النحويين، عارفا بما استشهدوا به من الأبيات في كتبهم، عالما بأن شواهده هذه لا تكاد توجد في كتاب، ولا يعرفها أحد من علماء زمانه، ثم يقتصر على إيرادها مجردة من النسبة إلى كتاب، أو الإسناد إلى راو، أو نسبة البيت إلى قائل معروف، ويفعل ذلك في سبع مائة بيت، فهذا لا يقع من رجل عالم يحترم العلم، ويؤديه بأمانة، وإنما هو يعلم أن هذه الأبيات من كُمِّه، فلذلك أوردها هكذا مبهمة.
3 - كل بيت منها ينادي على نفسه بأنه مصنوع منحول موضوع، وليس فيها بيت واحد يجوِّز الرجال العارف أن يكون من شعر العرب الأولين.
وهذا والله أقوى الأدلة في نفسي، وأسطعها وأنصعها، وقد رأيت بعض هذه الشواهد قبل أن أعلم أنها لم توجد إلا في كتب ابن مالك، فجزمت بأنها ليست من شعر العرب، وأنها موضوعة من صنع المتأخرين، ولم أكن وقتها أعلم أوجدت في الكتب القديمة أم لا، لأن المعرفة بالشعر والبصرَ به لا تَكذِب ولا تخيب، وهي دليل يُفيد العلمَ اليقينيَّ القاطع.
فبالله إذا نظرت مثلا إلى قول أحمد شوقي:
يمامة كانت بأعلى الشجره * آمنة في عشها مستتره
فأقبل الصياد ذات يوم * وحام حول الروض أي حوم
أتجوِّز أن يكون هذا من شعر الجاهليين أو المخضرمين أو الأمويين؟
فمن قال: نعم، قلنا له: ليس لنا كلام معك، لأن نعتَك لا ينصرف.
وإن قال: لا، قلنا: الحمد لله، قد أقررتَ بما كنت تنكره علينا، من أن الكلام عليه شاهد يلوح، يدل على زمانه وقد يدلُّ على قائله.
فإن قال: أنا استبنتُ ذلك في بيتي شوقي، لكني لم أستبِنْهُ في أبيات ابن مالك.
قلنا: الذي استبنتَه في بيتي شوقي استبنَّاه نحن في أبيات ابن مالك، والناس تتفاوت قدرتهم وأفهامهم وإدراكهم.
فهذه حجة دامغة، والحمد لله على فضله.
4 - الأبيات كلها فيها نفس رجل واحد، وفيها من التشابه شيء كثير لا يقع مثله في شعر الجماعة من الشعراء، وقد بيَّن الشيخ فيصل كثيرا من هذا التشابه في الألفاظ والمعاني.
ـ[(أبو إبراهيم)]ــــــــ[28 - 10 - 2013, 06:10 م]ـ
بارك الله فيك أبا حيان.
وأضيف خامسا:
5 - أن كل بيت من هذه الأبيات فرد مستقل بنفسه تام المعنى غير متعلق بشيء، فلا قبل له ولا بعد، وهذا يدل على أن هذه الأبيات وضعت وضعا ولم تستل من قصائد لوجود الشاهد فيها دون غيرها من أخواتها.
ـ[صالح العَمْري]ــــــــ[04 - 02 - 2014, 08:36 ص]ـ
لا إله إلا الله، ما أقوى نفس ابن مالك في شعره!
قل ما رأيتُ رجلا يظهر نفسه في شعره كما ترى من ابن مالك، والله إن أبياته في أبيات غيره من الشعراء لكالفرس الأبلق في الخيل الدهم، وإني لأقرأ البيت من أبياته في الكتاب من كتب النحو فأجزم أنه لابن مالك، ثم أنزل إلى الحاشية لأرى نسبته وتخريجه فيصدق ظني، وأجد المحقق يقول: لم نعثر على قائله! ثم يذكر تخريجه من كتب المتأخرين كأوضح المسالك وشرح ابن عقيل والأشموني وكتب السيوطي وغيرها، وقد تكرر هذا معي عشرات المرات.
وأنا الآن ما وقفت على كتاب الأستاذ فيصل المنصور، وأحسب أنني لو تتبعت الشواهد في كتب النحو واستخلصت منها ما أرى أنه لابن مالك لجاء ذلك موافقا لما استخرجه الأستاذ فيصل تمام الموافقة.