ملتقي اهل اللغه (صفحة 3103)

تاسعُ فروع المنهج التكميلية إعادةُ الكتابة، وعلامتُه التنبيهية هَذِّبْ؛ إذ ما كتابة البحث الأولى إلا تحقيق صورته المتخيلة، وهو العمل العظيم حقا، ولكنه لا يخلو من اضطراب علاقة الحقيقة بالخيال.

إن في الإعادة ولادةً أخرى حقيقية، لا إفادة فقط؛ ومن ثم يخافها كثير من الفنانين حرصا على براءة الصورة الخيالية وطراءتها، ويَسْترخصونَ إليها كلَّ ما تَلِدُهُ الإعادةُ منِ استقامةٍ واتساقٍ واتزانٍ وانضباطٍ. فأما العلماءُ -وطلابُ العلم هم العلماءُ- فلا يصبرون على اضطراب، ولا يعالجونه إلا بإعادة الكتابة.

يفرح الباحث بالكتابة الأولى أيَّما فرح؛ فهي الشَّبَكة التي اصطاد بها سَمَكَه، ثم ينصرف بإعادة الكتابة إلى تهذيبها مثلما ينصرف الصياد إلى إصلاح سمكه لأكله أو بيعه؛ فيقدم، ويؤخر، ويضيف، ويحذف، حتى لا يبدو له فيها عمل.

ولا حَرَجَ على الباحث الذي أعاد الكتابة -ثم بدا له- في أن يعيدها مرة أخرى أو مرارا؛ بل الحرج في أن يكسل عن ذلك، فيظل طوال عمره يُعاقِرُ اللَّوَّ واللَّيْتَ! وبئستْ معاقرتُهما صحبةً؛ فإنَّ لها لَنَهْشةً ولا نَهْشَةَ الأفعى، وصَحوةً ولا صحوةَ الموتِ!

?

"أَوْجِزْ=الْعَنْوَنَةُ=10"

عاشرُ فروع المنهج التكميلية العَنْوَنَةُ، وعَلامتُه التنبيهية أَوْجِزْ؛ إذ ينبغي للباحث أن يقدر أن المتلقي سيمر سريعا على بحثه مستقلًّا كان بحثُه هذا أو غير مستقل، لينتقل إلى غيره في فترة جَمْعِهِ المحددة.

إن العنونة هي تسمية البحث كله بعد الفراغ منه، اسمًا يدل عليه ويشير إليه؛ فما أكثر العناوين التي سُمِّيتْ بها الأبحاثُ قبل الفراغ منها، ثم أَخْلَفَتْها بعدئذ؛ فحار فيها الباحثون وكأنَّ تغييرها عملٌ مَهينٌ من أعمال التَّفْريط، وهو حقُّ اليَقين!

وأحسنُ أحوال العَنْوَنَة أن تكون بمسألة البحث موجزةً صريحةً. ولا يُقْنِعُ الباحثَ مثلُ أن يَذْكُرَ ما لقيه هو نفسه في أثناء جمع مادته من الأبحاث القبيحة العناوين، كيف ضَلَّلَتْه، وكيف عَطَّلَتْه! فإن أَبى إلا الإِيحاء فَلْيَجْعَلْه بعنوان آخر مع العنوان الصريح.

ومن وُجوه العَنْوَنَةِ بمسألة البحث أن يكون العنوانُ نفسُه هو الرأيَ الذي انتهى الباحث إلى قبوله في المسألة أو إلى رفضه؛ فهو عنونة بالمسألة وزيادة، وإن لم يستقم في أوهام السياسيين!

?

"تَأَنَّقْ=الْإِخْرَاجُ=11"

آخرُ فروع المنهج التكميلية الأحدَ عَشَرَ الإخراجُ، وعلامتُه التنبيهيةُ تَأَنَّقْ؛ إذ ينبغي للباحث ألا يُخْرِجَ بحثَه إلا في أبهى حُلَّة؛ فلا يترك شيئا يستولي على إقبال المتلقي على بحثه وارتياحه إليه وقبوله له واستمراره فيه إلا صنعه به، من نوع الحبر ولونه ونوع الخط وحجمه، إلى ترقيم الجمل وتنسيق الفقر والعناوين والصفحات، ثم اختيار ورق الطباعة والتغليف، وما إلى ذلك مما لا تنقضي عجائبه.

إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه. وإن تأنق الباحث في إخراج بحثه لهو شعار الإتقان؛ فلم تعد جودة البحث في نفسه كافية ولا مستقلة عن جودة إخراجه، بل صار حُكْمُ المتلقي على البحث وعلى إخراجه حُكْمًا واحدًا، يقول: لو كان جيدا لأجاد إخراجه، ولو كان مهما لاهتم بإخراجه.

وإن من تأنق الباحث في إخراج البحث أن يختار له أفضل نَشْرَةٍ تُوصِلُه إلى المتلقي. وإذا كانت المكتبات درجات بعضُها فوق بعض، فإن المجلات كذلك درجات بعضها فوق بعض، حتى صار مُحكّمو الأبحاث وَهُمْ سَادَةُ الْمُتَلَقِّينَ، يراعون درجات المجلات في تقدير المقالات، كما يراعون درجات المكتبات في تقدير الكتب.

وإنما يوفق من يستحق التوفيق!

والحمد لله رب العالمين!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015