ملتقي اهل اللغه (صفحة 3052)

وقد كان هذا المنهج الذي سلكه عبد القاهر في "دلائل الإعجاز" دعامة قوية لإثبات نظريته، والدفاع عنها من خلال تحليلاته الدقيقة للنصوص، واستدلالاته الموفّقة على المسائل، جعلته يثير إعجاباً رغم المآخذ التي أشار إليها بعض الدارسين، ومنهم أحمد بدوي الذي قال بشأن الكتاب:" يبدو في كتاب الدلائل تكرير وعدم تركيز الأفكار وعدم التقسيم المحكم للأبواب غالبا، وإنما هي أفكار ترد فيُسجّلها، وربما يكون قد سبق له شرح بعض هذه الأفكار أو شرح مثيل لها، وكان ينبغي ضم اللاحق إلى سابقه، أو زيادة في شرح ما سبق له أن شرحه" ()، ولعلّ من أسباب ذلك هو التبويب والتنظيم الذي افتقده الكتاب وهو العمل الذي أكمله الدارسون فيما بعد.

ومن جملة النقاد الذين أشاروا إلى قضية تأثّر عبد القاهر بالبلاغة اليونانية عامة، والأرسطية خاصة، نذكر شكري عياد حين كتب في بلاغة الخطاب والشعر. قال: "نظرية النظم ما كانت لتتم لو لم تسترفد من بين ما استرفدت أصلا فنيا هو اعتبار الحس القولي في"وحدة الكلام" وفي مجموعة أجزائه المترابطة التي لا يقوم جزء منها من مكانه أو يزال عن موضعه إلا انتفض الكل") (. ويذهب بعيدا حين يحدد المواضع التي تأثر بها الجرجاني بالفكر الأرسطي، كفكرة المحاكاة والوحدة، إذ يقول: "لو تأملت هذه الفكرة [النظم] التي جعلها عبد القاهر أصلا في "أسرار البلاغة " و "دلائل الإعجاز" لوجدتّها قريبة من فكرة قدامة في هيولي الشعر وصورته، بل لوجدتها هي بعينها فكرة ابن سينا، وفي أن العمل الشعري شيء يكون في صورة المعاني لا في مادتها، ولن تراها بعد ذلك بعيدة عن فكرة أرسطو في أن الشعر محاكاة لأفعال، أو محاكاة أي صورة ما تتشكل بها الأفكار والمعاني") (في حين يقدم الثانية على أساس نظرية استأثرت بالصناعة الشعرية من خلال التشبيهات الكثيرة التي وردت في كتابه، كالعمل الذي تقوم به الصورة والنقوش "إنا سبيل هذه المعاني، سبيل الأصباغ التي تعمل منها الصورة والنقوش في ثوبه الذي نسج، إلى ضرب من التخيّر والتدبّر في نفس الأصباغ، وفي مواقعها ومقاديرها، وكيفية مزجه لها وتركيبه إياها إلى ما يهتدي عليه صاحبه، فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب وأغرب") (. وما كان لهذا التأثّر أن يخلو من الحدة، إذ دخلت مسألة التعقيد إلى فكر الجرجاني، ولعلّ ظاهر ذلك تلك السمات الغالبة التي ميّزت "دلائل الإعجاز": استعماله لعبارات جافة غموض الفكرة ... الخ. وسرّ الغموض يظهر في دقة المسائل التي تعرّض لها والتي تعتمد على قوة الجدل، ودقة العرض. ويعلق أحمد المراغي على هذه المسألة قائلا: " أسلوبه يجمع بين الطريقتين: قوة الجدل المنطقي، وله المعرفة التامّة باصطلاح الفلاسفة والمتكلّمين، إلى الروح الأدبي والقدرة على النقد، وصنعة الكلام، إلا أن أسلوبه في " دلائل الإعجاز" أميل إلى طريقة المتكلمين" (). فتحمّسه البالغ لنظريته جعله يدخل النحو المتفلسف والمعقد على أبحاثه، ويعرض أبوابه بعبارات منمّقة وهو ما أضفى على نظريته رونقا خاصا.

وإذا كان موضوع تأثّر عبد القاهر في كتابه "دلائل الإعجاز" من الإشارات الكثيرة التي تعرض إليها المشتغلون بالدراسات اللغوية في أبحاثهم، فإن هناك من ينفي هذا الأمر جملة وتفصيلا، وحجته في ذلك أن ما قيل في هذا الشأن فيه كثير من المبالغة، فعبد القاهر لم يُشر في كتابه أن الثقافة الإغريقية كانت مصدر إلهامه، ولو أن أحمد بدوي ارتاب في القضية حين ذهب إلى "أن صمت عبد القاهر عن الحديث عن آراء أرسطو يثير كثيرا من الريب في أن صاحب الدلائل والأسرار قد نقل نقلا مباشرا عن الفيلسوف الإغريقي، فإنه حتى في فكرة النظم التي وقف عليها في كتابه" دلائل الإعجاز" قد نقل عن العلماء ما يؤديها، كما فإذا كان قد نقل عن أرسطو فلم يكن الفيلسوف اليوناني يمن يستر عبد القاهر الأخذ عنه، ولذلك وقف في ريبة من أمر دراسة عبد القاهر للثقافة الإغريقية المرتبطة بالبلاغة العربية") (.

ومستفاد القول مما تقدم أن نظرية النظم مرّت بمراحل مختلفة قبل أن تصل إلى المستوى الذي وصلت إليه، فهي ذات أصول تاريخية بعيدة، والفكرة وبالرغم من تناولها من لدن كثير من الباحثين، وخاصة دارسي الإعجاز القرآني، إلا أنها لم تعرف استقرارها إلا على يد عبد القاهر الجرجاني. وهذا المنهج المتمثل في الاستفادة من آراء سابقيه وتطعيمها بآرائه المميزة، نتيجة فكره النافذ، وأسلوبه العلمي، هي التي أوصلت فكرة "النظم" لأن تكون نظرية في غاية الدقّة والبراعة، فالفكرة وبالرغم من تناولها، ومعالجتها من لدن عديد الباحثين إلا أنها لم تعرف هدفها المنشود إلا على يد عبد القاهر الجرجاني في كتابه"دلائل الإعجاز"، "إن حديث النظم، ذو أصول تاريخية بعيدة، وهو موضوع عالجه النحاة واللغويون والنقاد والبلاغيون علاجا يسيرا ساذجا، أُسيء فهم موضوعه وظيفته ... ، ولكن عبد القاهر منحه سمة تمتاز بالتوضيح والتفصيل والتأويل المذهبي، والإمعان العقلي" ().

كانت هذه مختلف الروافد التي استلهم منها عبد القاهر الجرجاني أصوله المعرفية، روافد امتزج فيها الرافد الإعجازي بالرافد البلاغي، فالرافد الفلسفي، لتتشكّل على ضوئها ركائز أساسية ساهمت في بناء منهج متكامل، تجلّت معالمه في محتويات كتابه القيم: "دلائل الإعجاز"، وهو المنهج الذي لا يزال يساير الدراسات الحديثة، فإذا كان هناك في تاريخ البلاغة العربية ما نعتزّ به ونشجّعه وندعو إلى دراسته، ونعمل على تطويره بحيث يُلائم نهضتنا الأدبية الحديثة، فهو منهج عبد القاهر الجرجاني في دراسته للبلاغة العربية، ونظريته في النظم، وطريقته في فهم اللغة، وتحوّلها وفقهها، ونهجه اللغوي الذوقي في تحليل النصوص ودراستها والحكم عليها") (. لأنه بنى نظريته في كتابه "دلائل الإعجاز" على أساس من الفكر النحوي والبلاغي، بفضل حذاقة سمتها بناء لغوي شامخ استرفده تراث فكري عميق.

مقتطف من مبحث في رسالة ماجستير والموسومة " منهج عبد القاهر الجرجاني في الدرس اللغوي " تقدم بها الباحث: دقي جلول بجامعة تيارت -الجزائر-

طور بواسطة نورين ميديا © 2015