ملتقي اهل اللغه (صفحة 2963)

وعرف المجاز العقلى بقوله: «هو الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه لضرب من التأويل إفادة للخلاف لا بواسطة وضع» ([56]). مثل: (أنبت الربيع البقل) ونرى أن الإمام السكاكى لم يكن مقتنعا كل الاقتناع بفكرة المجاز العقلى حين أقبل نحوه بدرسه ويفلسف له، ويجهد نفسه فى استجلاء مسائله وقضاياه. وإنما فعل ما فعل مجارة لمن سبقه ممكن كتب حوله كالإمام عبد القاهر، وجار الله الزمخشرى والفخر الرازى الذين تأثر بهم فى كثير مما كتب. لذا تراه حين فرغ من بحث المجاز العقلى سرعان ما انقض عليه وأنكره ووضع عليه شارة غيرشارته، وألبسه ثوبا غير ثوبه، ونحله تسمية غير تسميته، وهو يجعله صورة من صورة الاستعارة المكنية. ورد المتأخرون مذهب السكاكى هذا فى إنكار المجاز العقلى ودرجه فى صور الاستعارة بالكناية، وكان الخطيب أول من لحظ هذا وناقشه فى وضوع وأبان عن قصور السكاكى فى هذا المبحث. والتحقيق أن إنكار السكاكى المجاز العقلى لا تساعده عليه بعض التراكيب. وأيا كان الأمر فإن الإمام السكاكى من أشهر علماء الأمة القائلين بورود المجاز لغويا وعقليا على مذهب الأصحاب، ولغويا على مذهبه. ومن أشره علماء الأمة القائلين بوروده فى اللغة بوجه عام وفى القرآن بوجه خاص ([57]).

الخطيب القزوينى (ت 739هـ) ([58])

للخطيب القزوينى منزلة خاصة فى البحث البلاغى بوجه عام، لم يحظ بها أحد ممن تقدمه، ولا ممن لحق به. فكان قطب الدائر بحق إذ كان البحث البلاغى قبله آخذا فى النمو والتدرج جيلا بعد جيل، فجاء هو وقد استلهم أبرز مباحث سابقيه، وأخذ على عاتقه مهمة صوغ المباحث البلاغية فى عبارات جامعة محررة وأضاف إليها ما جادت به قريحته مع دقة النظر، وصواب الفكر، وسلامة المذهب. ([59])

ونراه يخالف منهج الإمام السكاكى فى موضع بحث المجاز العقلى فبحثه فى علم المعانى؛ لأنه صورة من صور الإسناد وحال من أحواله، ودرج على هذا الشراح من بعده، أما السكاكى فبحثه فى علم البيان. ([60])

ونرى الخطيب فى تحليلاته لصوره المجاز العقلى غواصا وراء دقيق المعانى. ([61])

وقد قسَّم المجاز اللغوى بحسب العلاقة المصححة قسمين فقال «والمجا ضربان: مرسل واستعارة؛ لأن العلاقة المصححة إن كانت تشبيه معناه بما هو موضوع له فهو استعارة. وإلا فهو مرسل» ([62]).

ومما تجب الإشارة إليه أن جل أمثلة البلاغيين على المجاز، بل أكثرها ماء ورونقا، وأصدقها شاهدا كانت من نصوص القرآن الكريم. فلم يروا فى ذلك حرجا. وهذا يدفع بقوة مذهب يدفع بقوة مذهب الإمام ابن تيمية ومشايعيه قديما وحديثا فى نفى المجاز فى اللغة بوجه عام. وفى القرآن بوجه خاص. ([63])

رابعا: المفسرون

ابن جرير الطبرى (ت 310هـ) ([64])

تفسير ابن جرير له أهمية خاصة من بين كل التفاسير المعروفة لنا الآن: فهو أول تفسير جامع للقرآن العظيم كله، وقد فاق فى ضخامته الحد المعهود للتفاسير المبكرة، وبعض التفاسير المبكرة، وبعض التفاسير التى وضعت بعد عصره بكثير. وقد اعتمد على أقوال الصحابة والتابعين ومما نقلوه عن صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم. وهو من أبرز التفاسير التى جمعت إلى تفسير الرواية تفسير الدراية. حيث لم يقف ابن جرير عند الآراء المأثورة التى يرويها، يرويها بل اتبعها بالتوجيه والترجيح ما وسعه النظر والفهم، فهو تفسير نقلى عقلى فى آن واحد.

نجد أن ابن جرير يتحفظ كثيرا جدا من صرف العبارة على غير ظاهرها، ويحاول أن يقف بالعبارة القرآنية عند دلالتها الظاهرة، وحين ينقل من آراء السلف ما فيه صرف العبارة عن الظاهر فإنه عند الترجيح يقلل من قيمة الصرف ويميل إلى ما عداه. ومع التحفظ الشديد فإن لمجوزى المجاز فى تفسيره شواهد قوية تفوق طاقة المحصى المتعجل لكثرتها ([65]).

«فنجده مثلا عند تعرضه لقوله تعالى] أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ [فقد قال فيه: يعنى تعالى ذكره بقوله أولئك: هؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب فى شأن محمد صلى الله عليه وسلم بالخسيس من الرشوة يعطونها فيحرفون لذلك آيات الله ويغيرون معانيها ما يأكلون فى بطونهم بأكل ما أكلوا .. إلا النار. يعنى: إلا ما يوردهم النار ...» ([66])

فهذا القول منه صالح للعمل على المجاز المرسل وعلاقته اعتبار ما سيكون ([67]).

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015