توسع ابن جنى فى أمر المجاز، وزعم أنه أكثر من الحقيقة، وأفرط فى هذا الموضوع إفراطا غير محمود. فتراه يقول: «اعلم أن أكثر اللغة –مع تأمله- مجاز لا حقيقة» ثم يأخذ للتثميل والتدليل على زعمه صورا من التراكيب الحقيقية ويعمل فيها فكره حتى يضفى عليها ثوبا فضفاضا ليدخلها فى حيز المجاز ([35]).
وما ذكرناه من النقد لكلام ابن جنى لا يقلل من قيمته، فابن جنى أحد أعلام القرن الرابع من اللغويين الذين أقروا المجاز فى اللغة وفى القرآن وحددوا بعض ملامحه وسماته.
ثانيا: الأدباء والنقاد:
ابن المعتز (ت 296هـ) ([36])
أبو العباس عبد الله بن المعتز هو أول من وضع كتابا منهجيا فى علوم البلاغة، وتحدث فيه عن سبع عشرة صورة من صورها، أو فنا من فنونها ([37]).
والمجاز فى بديع ابن المعتز محصور فى لون واحد فى تصوره، وهو (الاستعارة) فقد صرح باسمها وكرر ذكرها مرات عديدة وأظهر اعتناء بها حيث قدمها على جميع الفنون السبعة عشر التى ذكرها فى بديعه. عقد بابا سماه (الباب الأول من البديع وهو الاستعارة)، أورد أمثلة مختلفة من القرآن الكريم مثل:] وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [[الإسراء: 23]، المشهور أن فى الآية استعارة مكنية، ومن الأحاديث مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «ضُمُّوا مَاشِيَتَكم تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ» ([38])، فكلمة (فحمة) مستعارة للإظلام بجامع شدة السواد فى كل منها. ومن مأثور كلام العرب شعرا ونثرا حِكَما وأمثالا. فقال: ومن الاستعارة قول امرء القيس من الطويل:
وليل كموج البحر مرخ سدوله على بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف أعجازاً وناء بكلكل
هذا كله من الاستعارة لأن الليل لا صلب له ولا عجز وقال من الطويل ([39])
وقد اشترط ابن المعتز على تجنب الاستشهاد بكلام المحدثين بالنسبة لعصره فاقتصر على القرآن والحديث وكلام الأقدمين من جاهليين وإسلاميين ([40]).
على بن عبد العزيز الجرجانى (ت 366 هـ أو 392هـ) ([41])
ولد القاضى على بن عبد العزيز الجرجانى فى القرن الرابع الهجرى وهو قرن حافل بازدهار العلم والحضارة الإسلامية لمعت فى سمائه نجوم زاهرة فى شتى العلوم والفنون، وكان الجرجانى من أزهرها وأضوئها، وله كتاب من أهم كتب النقد وهو (الوساطة بين المتنبى وخصومه)، وهو كتاب نقدى بلاغى، نجده قد تحدث فيه عن مباحث المجاز وغيرها من الوجوه البلاغية. ومن أبرز المباحث عنده بحث الاستعارة فقد أفاض فى ذكرها وتحليلها وتحديدها، والفرق بينها وبين وبين ما يشبه بها من فنون بلاغية. والتفرقة بين حسنها ورديئها. والإشارة إلى مقومات الحسن والإجادة فيها. وتكلم عن الإفراط فى استخدامها ([42]).
على أن القاضى الجرجانى له وقفات أخرى مع التوجيه المجازى للألفاظ والتراكيب. وهو باعتباره أديبا ناقدا، فقد جمع بين ذوق الأديب وذكاء الناقد واتخذ من أسلوب المجاز، والاستعارة بوجه خاص، وسيلة من وسائل النقد والدفاع عما رضيه من القول، وكتاباته تنم عن اشتهار أمر المجاز فى عصره. وأن المجاز كان معترفا به عند علماء الأمة سواء عند من ناصروا أبا الطيب على كثرة طرقه له، والغوص وراء معانيه، وعند الذين خاصموا أبا الطيب فهم لم ينكروا على أنصاره تذرعهم بالمجاز فى الدفاع عنه، وإنما قبحوا ما تناوله من بعض صور الاستعارة والتشبيه، وفى نفس الوقت التمسوا وجوه التصحيح من الأقوال التى احتج بها الذين دافعوا عن أبى الطيب، ومنهم القاضى نفسه ([43]).
مصطفى صادق الرافعى (ت 1356هـ = 1937م) ([44])
«ولسنا نقول إن القرآن جاء بالاستعارة لأنها استعارة أو بالمجاز لأنه مجاز أو بالكناية لأنها كناية أو ما يطّردُ مع هذه الأسماء والمصطلحات، إنما أُريد به وضعٌ معجزٌ فى نسق ألفاظه وارتياب معانيه على وجوه السياستين من البيان والمنطق فجرى على أصولهما فى أرقى ما تبلغه الفطرة اللغوية على إطلاقها فى هذه العربية، فهو يستعير حيث يستعير ويتجوّز حيث يتجوز ويُطنب ويُوجز ويُؤكِّد ويعترض ويكرر إلى آخر ما أُحصى فى البلاغة ومذاهبها لأنه لو خرج عن ذلك لخرج من أن يكون معجزا فى جهة من جهاته ولاستبان فيه ثمة نقصٌ يمكن أن يكون فى موضعه ما هو أكملُ منه وأبلغُ فى القصد والاستيفاء» ([45]).
ـ[عمر خطاب]ــــــــ[01 - 03 - 2009, 04:52 م]ـ
ثالثا: الإعجازيون والبلاغيون
¥