يريد أن مَن اجتمع فيه مثل صِفاتك، كان حقًّا أن ينفَى من المسجدِ.
وهذا أبلغُ من التجريدِ من وّجوه:
الأول: ما فيه من إيجازِ القِصَر؛ حيث حكمتَ على المثيل بدلالة اللفظ، وحكمت على المراد الإخبارُ عنه بالكناية، لأنه إذا ثبت الحكمُ للشيء، ثبت أيضًا لمثيله. فلهذا كان معنَى قول جرير: (ومثلك ينفى ...)، (هذا الجنس حقّه أن ينفى ...).
الثاني: تعليل الحكم، وظهوره بمظهر الإنصافِ؛ إذ تكونُ بيَّنت أنَّ الحكمَ حقّ لكلّ مَن اجتمعت فيه هذه الصفات.
الثالث: ما فيه من الكناية التي تثبِت الحكم، ثم يفهمُه المخاطَب من غير تصريحٍ به؛ ألا ترى أن قولك: (مثلك لا يفعل هذا) أدعى للقَبول، وألطفُ من قولك: (لا ينبغي لك أن تفعل هذا)، لخلوِّه من التصريح.
وليس منها المبالغة التي ذكرها الشيخُ رحمه الله، لأنه فهِم أن المثلية تقتضي فرعيَّة المحكوم عليه به. وليس الأمر كذلك؛ فالمثلية تقتضي التساوي، لأن معنى (مِثل) (مماثل). و (المماثلة) على بنية (المفاعلة) التي يكون الفاعل، والمفعول فيها سواءً في الفاعلية، والمفعولية، كـ (المضاربة) ونحوها. أما الذي يقتضي الفرعية، فالتشبيه، إذا قلتَ: (هذا يشبه هذا).
وكلُّ ما سلفَ من القول يجري في قوله تعالى: ((ليس كمثله شيءٌ))؛ فيكون المعنى: أن الخالقَ المتفرِّد بالكمال، والبقاء لا يمكن أن يكون مثلَه شيءٌ من خلقِه؛ كأنه قال: (كلُّ مَن كان خالقًا، امتنع أن يكون له مثيل. والله هو الخالق وحدَه؛ فلا يمكن أن يكون له مثيل). ولو قال: (ليس مثلَه شيء) لم ينبِّه على العلة التي استحقَّ بها امتناع المثلية، وصار نفيًا محضًا مجرَّدًا عن الدليل، بعيدًا عن الإقناعِ. وهذا كقوله في سورة النحل: ((أفمن يخلق كمن لا يخلق))، ولم يقل: (آلله كمثل معبوداتكم الأخرى)؛ فنبَّه كما ترى على العلة. وذلك أن هذه السورة مكيَّة. وهذا الخِطابُ أدنى أن يوافق حالَ كفَّار قريش، لما اقترن به من الحجة المنطقيَّة.
فإن قلتَ:
أليس مقتضى هذا إثبات المثيل لله؟
قلتَ:
لا؛ فهذه كنايةٌ؛ والكناية لا يجِب ثبوت ملزومِها.
والله تعالى أعلمُ بمراده.
ـ[قصي علي الدليمي]ــــــــ[12 - 04 - 2009, 09:29 م]ـ
هذه الآية وقف عندها العلماء كثيراً واطالوا فيها الكلام فجزاهم الله عن القرآن خير الجزاء
وهذه الآية: قال ابن سعدي: (وهذه الآية دليل لمذهب أهل السنة والجماعة من إثبات الصفات، ونفي مماثلة المخلوقات) تيسير الكريم الرحمن:6/ 598، و (على القول بأنَّ الكاف أصلية، وأنَّ الآية تفيد نفي المثلية عن الله (جل جلاله) بطريقة الكناية؛ إذ نفي مثل المثل يستلزم نفي المثل، ويمتنع في الآية إرادة المعنى الأصلي، وهذا الامتناع ليس بسبب القرينة، بل بسبب عارض خارجي هو إفادة ثبوت المثل لله (جل جلاله) وذلك محالٌ.
ويجوز جعل (الكاف) صلة (زائدة) فلا يكون في الآية كناية عندئذٍ) علم البيان،بسيوني عبدالفتاح: 201 – 202، قال ابن قتيبة: (أي: ليس كهو شيءٌ، والعرب تقيم المثل مقام النفس، فيقال: مثلي لا يُقال له هذا، لا يُقال لي، أي: أنا) القرطين: 1/ 120،وقال الزمخشري: (قالوا: مثلك لا يبخل، فنَفوا البخل عن مثله وهم يريدون نفيه عن ذاته. قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا به طريق الكناية، لأنّهم إذا نفوه عمن يسد ّمسدّه وعمن هو على أخص أوصافه فقد نفوه عنه ونظيره قولك للعربي: العرب لا تخفر الذمم، كان أبلغ من قولك: أنت لا تخفر ... فإذا علم أنه من باب الكناية لم يقع فرق بين قوله: ليس كالله شيء، وبين قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} إلا ما تعطيه الكناية من فائدتها، وكأنهما عبارتان معتقبتان على معنى واحد: وهو نفي المماثلة عن ذاته) الكشاف: 3/ 399، وينظر: الإيضاح: 337 - 338، وأنوار التنزيل: 5/ 51، وحاشية زاده: 4/ 272،وهذه طريقة البعض في تقرير الكناية في الآية، وتوضيحها أنَّ الله تعالى موجود، فإذا نفى مثل مثله لزم نفي مثله لئلا يلزم نفيه تعالى مع ثبوت وجوده ينظر: بغية الإيضاح: 3/ 184، وينظر: محاسن التأويل، محمد جمال الدين القاسمي: 14/ 233،والمشهور عند العلماء أنَّ (الكاف) زائدة في خبر (ليس)، وشيءٌ: اسمها. قال الزجّاج: (وهذه الكاف مؤكدة والمعنى: ليس مثله شيء، ولا يجوز أن يقال: المعنى مثلَ مثله شيء
لأنَّ من قال هذا فقد أثبت المثل لله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً) معاني القرآن (للزجاج):4/ 395، وينظر: جامع البيان: 25/ 12، ومعاني القرآن (للنحّاس):6/ 297،
والمحرر الوجيز: 13/ 146، والدر المصون: 9/ 543، وعروس الأفراح: 4/ 233، وفتح القدير: 4/ 528.
يبدو لي أنَّ الآية فيها توسّع في المعنى، فالأمران مرادان في نفس الوقت.
فإنْ كانت (الكاف) زائدة كان توكيداً لمن يشك في ذات الله فيصير المعنى: ليس مثله شيء، وبهذا قال بعض العلماء. وإنْ كانت (الكاف) أصلية أفادت الآية نفي المثلية عن الله بطريق الكناية، وبهذا قال بعض العلماء، فنفي مثل المثل يستلزم نفي المثل وهذا للمستيقن بذات الله. فكأن الخطاب موجّه للفريقين في نفس الوقت، ويكون المعنى في النهاية: أنَّ الله موجود ولا شيء يماثله، بلا تمثيل، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تكييف وبما لا يخالف العقيدة، والله أعلم.
¥