- وأما (الأعجميّ)، فقد أشرتُ إليه في (الجزء الثاني من الأخطاء الشائعة)؛ قلتُ:
والقولُ الفصلُ في هذه الكلمةِ أنه يجوزُ بتصفُّحِ الأوجهِ المحتملةِ، لا الجائزةِ أن تُحملَ على أربعةِ أوجهٍ:
الأول: أن تكونَ الياءُ ياءَ النسبِ الحقيقية، أفادت معنى المبالغةِ. وهو قولُ ابنِ مالكٍ في الجملة، وقولُ الرضيِّ. ومما أذكرُ من نظائرِ ذلك قولهم (أعجم وأعجميّ)، و (أحمر وأحمري)، وقولُ العجاجِ في قصيدته المشهورة التي مطلعُها:
أطربًا وأنت قِنَّسريُّ
قال:
والدهرُ بالإنسانِ دوَّاريُّ
وهو وجهٌ مردودٌ بأنَّ ياءَ النسبِ تُلصِق مدخولَها بموصوفِها؛ وإذا كانَ كذلك لم يصحَّ أن تفيدَ معنى المبالغةِ، لأنَّ المنسوبَ أدنى درجةً من المنسوبِ إليه؛ فكانَ الوجهَ أن تفيدَ خلافَ ذلك. وبيانُ ذلك أنك إذا قلتَ: (أمرٌ رئيسيّ) لم تصفه بأنه (رئيس) أي: موصوفٌ بالرئاسةِ؛ ولكنك جعلتَه منسوبًا إلى الرئيسِ. وليس هذا المرادَ، ولا يصِح به المعنى. فإن قلتَ: فما بالنا نقولُ: شيء أساسيّ. ولا نقول: رئيسي. قلتُ: ذلك بأنّ (أساسًا) اسمُ ذاتٍ، فيُنسب إليه كما يُنسبِ إلى كل اسم دالٍّ على ذاتٍ. أما (رئيس) فصيغة مبالغةٍ من (رأسَ). ويجوزُ عندي أن يَّكونَ صفةً مشبهةً من (رؤُس) المقدَّر، وإن لم يُسمَعْ؛ إذ الرئاسةُ من المعاني الثابتةِ، كـ (عظُم) فهو (عظيم)؛ قالَ ابنُ جنيْ في الخصائصِ: (ولا يُستنكَر الاعتدادُ بما لم يَخرج من اللفظِ، لأن الدليلَ إذا قامَ على شيء كانَ في حكم الملفوظ به؛ وإن لم يجرِ على ألسنتِهم استعمالُه ...) قلتُ: كما قالُوا: (فقيرٌ)، ولم يقولوا (فقُر). أو يكون من بابِ (حريص) فيكونُ فِعلُه من بابِ (فعَل) وصفتُه المشبَّهة على (فعيل)، كـ (حرَص) فهو (حريص). وهو شاذٌّ.
الثاني: أن تكونَ الياءُ ياءَ النسب الحقيقية، أفادت النِّسبة إلى ما اتصلت به حقيقةً. وهو مردودٌ بما سبقَ. ويأتي شيء من الكلام عليه في الوجه الثالث.
الثالث: أن تكونَ الياءُ ياءَ النسبِ الحقيقيةِ، لم تفد معنًى؛ وإنما هي من قبيلِ التصرُّف والتوسُّعِ في الكلامِ. فإن قلتَ: كيفَ وقد بينتَ آنفًا أنَّ ياءَ النسبِ لا بدَّ أن تفيدَ نسبةَ ما لحِقته إلى الموصوفِ؟ قلتُ: إنَّ الأصلَ في النسبِ أن يَّكونَ إلى غيرِ المشتقِّ، لأن المشتقَّ دالٌّ على معنًى وصاحبِه؛ فإذا قلتَ: هذا أمرٌ رئيسٌ. كنتَ وصفتَ الأمر بأنه ذو رئاسةٍ؛ فتكونُ قد نسبتَ إليه بدِلالةِ البِنيةِ؛ فلا تحتاجُ من بعدِ إلى ياءِ النسبِ. وإذا قلتَ: هذا كتابٌ أدبٌ. لم يكن كلامًا، لأنّ (أدَبًا) ليس بمشتقٍّ، فيدلَّ ببِنيته على النسبةِ؛ فلا تجد بدًّا من النسبةِ بياءِ النسبِ؛ فتقولُ: (هذا كتابٌ أدبيٌّ) فتقومُ الياءُ مَقامَ اسم المفعولِ؛ كأنك جئتَ بمشتقٍّ اسمِ مفعولٍ؛ فقلتَ: (هذا كتابٌ منسوبٌ إلى الأدبِ).
فإذا علمتَ هذا انبغَى لك أن تعلمَ أنك إذا نسبتَ إلى الاسم المشتقِّ كنتَ ناسِبًا إلى مَن قامَ به المعنى. وهذا بحسبِ التقسيمِ العقليّ إما أن يَّكونَ مرادًا، وإما أن يَّكونَ غيرَ مرادٍ؛ فالأول لا إخالُه يقعُ في الكلامِ، إلا أن يَّكونَ غلبَ على المشتقِّ الاسميةُ؛ فلا تقولُ: هذا شارعٌ رئيسيٌّ. لأنك نسبتَ إلى (الرئيس)، وهو وصفٌ لا يُعلَم موصوفُه؛ أي مَن قامَ به المعنى. فإن غلبَ على المشتقِّ الاسميةُ بأيِّ سبيلٍ جازَ لك ذلك لتعرُّف موصوفِه، كما تقولُ: (هذه قصةٌ واقعيةٌ) تنسبُ القصةَ إلى الشيءِ الواقعِ، وذلك لتعرُّفِ صاحبِ المعنى من قِبَلِ عمومِه؛ وهو أحدُ سبُلِ انتقالِ الكلمةِ من الوصفيةِ إلى الاسميةِ.
وإما أن يَّكونَ غيرَ مرادٍ، فلا يصِحُّ لمخالفتِه قانونَ النسبِ، إلا أن نجعلَ ما وردَ محمولاً على ذلكِ من قبيلِ الشذوذِ. ولنا أن نعلِّلَ له – وإن كانت العلةُ قاصرةً – بالتوهُّم، أو الغلَطِ المحضِ.
¥