ـ[د. سليمان خاطر]ــــــــ[28 - 05 - 2008, 08:37 م]ـ
هذا حديث لي قديم منشور، أحببتُ أن أفتتح به مشاركاتي في هذا الملتقى الطريف، وهو يمثل خلاصة ما أراه في الكتابة الشبكية وغيرها. ولعلي أسمع آراء أهل هذه الدار فيه، وأنتفع بها.
بين الفكر واللغة
الرأي الصائب باللفظ الجاذب
الفكر واللغة من أكبر نعم الله على عباده؛ إذ بهما يكون الإنسان إنسانا، يفكر ثم يتكلم، فيعرف من هو، وماذا عنده من علم ومعرفة أو خبرة وتجربة. وقديما قالوا: المرء مخبوء تحت لسانه، كما قالوا: تكلم تعرف، وقالوا: المرء بأصغريه: لسانه وقلبه، وصدق حكيم الشعراء وشاعر الحكماء زهير بن أبي سلمى المزني حين قال:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وكل من الفكر واللغة بحاجة إلى الآخر؛ فما ينتجه الفكر يصل إلى الناس عن طريق اللغة غالبا، ولا فائدة من اللغة دون مضمون فكري صحيح مفيد، وإلا أصبحت ألفاظا بلا معنى، فهما مرتبطان برابط وثيق من التكامل والتعاون، لا يستغني أحدهما عن الآخر، ولا فائدة من أحدهما دون الآخر. ولعل هذا من أوضح الأمور، دون الدخول في جدلية اللفظ والمعنى أو الشكل والمضمون في النقد الأدبي وعلوم البلاغة النظرية.
وبناء على ذلك على كل إنسان أن يسعى إلى تغذية عقله وفكره بالتأمل والتفكر والقراءة والاطلاع والحوار ومناقشة الآخرين وسؤال أهل الذكر في كل شأن؛ ليعلم ما لا يعلمه، فالله أخرج الإنسان من بطن أمه وهو لا يعلم شيئا، ومهما تعلم وعرف فعلمه قليل، ومعرفته محددة بحدود ضيقة؛ لأن العلم الذي أعطاه الله عباده قليل كله لا يساوي شيئا إلى ما عند الله – سبحانه- من علم واسع غير محدد، فهو- تعالى- قد"وسع كل شيء علما"
وكذلك على الإنسان أن يسعى إلى إصلاح لسانه ولغته، بالتقويم المستمر، والممارسة الدائمة، والمراجعة عند الحاجة واستشارة المعاجم اللغوية، والاستمتاع بالمنخول الجيد من نصوص اللغة أيا كانت، فللغات قوانينها ونظمها المشتركة العامة والخاصة بكل لغة منها؛ فعلى الذي يمارس التفكير بلغة معينة أن يتهم بقواعدها ونظامها في الأصوات والكلمات والجمل والعبارات والتراكيب ودلالاتها؛ لأن الذي يقدم فكرا رصينا بلغة رديئة –إن أمكن ذلك- كمن يقدم طعاما شهيا في آنية رديئة!
والتفكير على أهمية لا يتحقق إلا من خلال لغة , فليكن القول الصحيح باللفظ الفصيح , والرأي الصائب باللفظ الجاذب , والفكر الرزين بالقول المبين؛ لأن صحة الفكرة لا تغني عن جمال الأسلوب.
وكما للغة قواعد تراعى، ونظام لا يغفل، فللتفكير السليم أسس تتبع، وقواعد يلتزم بها حتى يكون محققا لأهدافه، موصلا إلى غاياته، موقفا على ثمراته. فكم يجني على نفسه وعلى غيره من يغفل أحد الأمرين أو يهمل أحد الجانبين، وفي ذلك جناية على الجانب الآخر أيضا، فأي ظلم للغة الفصيحة أكبر من أن تستخدم في توافه الأفكار وضلال العقول وانحراف النفوس وباطل المدعوات؟ وأي ظلم للفكر الرصين أكبر من يقدم في ركيك العبارات وسوقي الألفاظ وقبيح الأساليب؟
ولا خلاف في أن لكل من الفكر واللغة مستويات متفاوتة، ودرجات بعضها فوق بعض، فهنالك التفكير اليومي العادي في أمور الحياة وحاجات النفس الضرورية التي لا تحتاج إلى التفكير العميق، كما لا يحتاج التعبير عنها إلى اللغة الفصيحة، وهنالك الأمور الرسمية والقضايا الفكرية والعقدية والمسائل الثقافية والحضارية التي تحتاج إلى فكر عميق ولفظ رصين، كما أن هناك أمورا بين هذا وذاك تحتاج إلى قدرها من الفكر واللغة، فمستويات التفكير لا يطغى بعضها على بعض، كما أن مستويات اللغة لا يؤثر بعضها في بعض، وهكذا الحياة في كل جوانبها، فيها الدنيا والوسطى والقصوى، أو الأعلى والأوسط والأدنى. ولعل هذا هو واقع الحياة على مر العصور وتعاقب الدهور، فما أظن أن أرسطو كان يفكر في بيته مع أهله وأصدقائه ومحيطه الاجتماعي عموميا بالطريقة أو المستوى الذي كتب به منطقه، كما لا أظن أن امرأ القيس مثلا كان يخاطب أهله في البيت بمثل:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل. . .
فلكل مقام مقال، ولكل عهد دولة ورجال.
¥