ملتقي اهل اللغه (صفحة 11719)

ينطلق علي القاسمي إذن، من تصور فلسفي للترجمة، إذ يعتبرها ليست مجرد توليد المقابلات المعجميّة لمفردات النصّ الأصلي، وإنّما هي نقلٌ يجري في إطار عملية التواصل، بيد أنها أكثر تعقيداً في تواصل بين ناطقين بلغة واحدة.

فالمترجِم يجتاز حدود لغتين عبر رموز لغوية، وأخرى ثقافية اجتماعية، وثالثة أسلوبية أدبية. فلا يكفي نقل النص مجرداً من حمولته الثقافية وعاريا من كسوته الأسلوبية المتميزة.

وإنما يتحتم على المترجم أن يموضع النص في سياقه الثقافي ومقامه الاجتماعي، وأن يصوغه بأسلوب يتناسب مع أسلوب الكاتب الأصلي.

وإذا فشل في واحد من هذه الميادين الثلاثة، فإنه يخلُّ بأمانة النقل التي تعد عماد الترجمة الناجحة"2".

بناء على هذا التصور الذي يتبلور لدى القاسمي من خلال ترجماته الأدبية، يمكن للقارئ لأعماله المترجمة أن يمسَّ هذا التصور الفلسفي الذي يعدُّ الخلفية التي على أساسها يترجم أعماله المنتقاة، ففي الأعمال الناجحة التي ترجمها لهمنغواي، وأخص بالذكر "الوليمة المتنقلة" و"الشيخ والبحر"، لم يكتف في ترجمتها على التحكم في اللغتين الإنجليزية والعربية، بل أضاف إلى ذلك إطلاعه الجيد على أدب همنغواي وأسلوبه، إضافة إلى اطلاعه على الدراسات النقدية التي تناولت أعماله.

إلى جانب تخصص القاسمي في أدب همنغواي، يعد من المطلعين الجيدين على نظريات الترجمة والمعجم وعلم المصطلح الذي يعد مجال تخصصه، والذي استفاد منه بشكل كبير في صقل أسلوبه وفي تطوير تقنيات الترجمة لديه، لأن علم المصطلح سيعفي القاسمي من الاطلاع على الأماكن التي تدور فيها القصة، وسيمكنه من تدقيق ترجمته للمفهوم، وذلك بالعودة إلى المعاجم المتخصصة، وهذه قناعة تكونت لديه بعد ترجمته لرائعة: "الشيخ والبحر".

فلم يذهب القاسمي إلى كوبا، وهو المكان الذي تدور فيه القصة، كما فعل مع رواية "الوليمة المتنقلة"، وإنما اكتفى بالاعتماد على كفاءته اللغوية والأدبية، وتخصصه في همنغواي، وأخيرا العودة إلى المعاجم المتخصصة لترجمة بعض المصطلحات التي تقتضي الدقة المطلوبة.

2 ـ تحدي إعادة ترجمة "الشيخ والبحر" "* "

أن تترجم عملا أدبياً إلى لغتك الأصلية، يعني أن تساهم في مدِّ الجسور بين ثقافتك وثقافة الآخر. وتعد ترجمة أي عمل إلى اللغة الأصلية إنجازا في حد ذاته. لكن أن تعيد ترجمة عمل سبق أن ترجم من قبل، وبالرغم من مشروعية العملية، فإن التحدي الذي يواجهك كمترجم، هو إلى أي حد تستطيع أن تقدم ترجمة ناجحة مقارنة بالترجمات السابقة، خاصة إذا كان العمل المترجم معروفا ومترجمه لا يقل أهمية وقدرة في هذا المجال.

ذلك هو التحدي الذي واجه الدكتور علي القاسمي، وهو يقدم على ترجمة رائعة همنغواي "الشيخ والبحر" التي سبق أن ترجمت من قبل، ومن قِبَلِ مترجمين كبار يشهد لهم بكفاءتهم العلمية، فما هي القيمة المضافة التي سيقدمها الدكتور القاسمي؟ وما هي مؤاخذاته على الترجمات السابقة؟

وما هي نقط القوة التي اعتمد عليها القاسمي بخوض هذه المغامرة العلمية؟ وما هي التقنية التي اتبعها القاسمي في ترجمته ليجعل من ترجمته عملا متميزا عن الترجمات السالفة؟

ينطلق الدكتور علي القاسمي من قناعة مفادها أن المترجم يعدُّ وسيطاً بين مؤلف أجنبي وقارئ وطني، وسيط بين لغة الأصل المرسلة ولغة الترجمة المتلقية، وسيط بين الثقافة التي كتب فيها النص والثقافة التي نقل إليها.

ويتوقف نجاح الترجمة على كيفية أداء هذا الوسيط لدوره. ويعتمد تفوق المترجم على تمكُّنه من اللغتين وإلمامه بالثقافتين معاً، ومعرفته لموضوع النص، وإدراكه لأسلوب المؤلف وثقافته"3".

إن مجمل هذه الخصائص نجدها لدى الدكتور القاسمي من خلال ما يلي:

1ـ تمكن علي القاسمي من اللغتين الإنجليزية والعربية. إذ سبق له أن درس في الجامعة الأمريكية ببيروت، وهيأ بحثا باللغة الإنجليزية عن القصة الحديثة في العراق، كما تابع دراسته بجامعات عالمية أنجلوسكسونية في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ...

2ـ تمكنه، كذلك، من اللغة العربية، إذ يعتبر خبيرا في مجال المصطلح والدراسات المعجمية، ومؤلفاته العديدة في هذا المجال تشهد على كفاءته العلمية: إذ يعمل حالياً مستشارا لمكتب تنسيق التعريب، وعضوا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة ومجمع اللغة العربية بدمشق.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015