من جهة أخرى, لم تكتف ِ اللغة في اكتساب تلك الوظائف والأدوار العديدة والمختلفة, بل شهدنا في أوائل القرن العشرين انقلاباً لغوياً خطير المعاني مفاده أن اللغة تخلق الفكر والواقع. فمثلاً, إذا اعتمدنا لغة الفيزياء بدلاً من لغة أخرى كلغة الرياضيات سوف نفكر بطريقة مختلفة وسنرى الكون من منظور مختلف بل سيتخذ العالم شكلاً مختلفاً عما سيتخذه لو أننا اعتمدنا لغة الرياضيات مثلاً. فمن خلال لغة الفيزياء سيغدو الكون متكوّناً من جسيمات كالإلكترون وطاقات كالجاذبية. لكن إذا اعتمدنا لغة الرياضيات سيصبح الكون متشكلاً من هندسات متعددة ومعادلات رياضية مختلفة هي الأساس في نشوء المواد وطاقاتها؛ فمع اختلاف هندسات الطبيعة تتنوع القوانين الطبيعية. أما إذا كانت لغتنا بدائية لا تحتوي سوى على القليل من المفاهيم , إذن من الطبيعي أن لا ننجح من خلالها في فهم الفيزياء أو الرياضيات المعاصرة. هكذا اللغة هي العامل الأساس في صياغة تفكيرنا وواقعنا. والمضمون الفلسفي لهذه الثورة اللغوية يتمحور حول فكرة أن معظم المشاكل الفكرية تنشأ من جراء تخبطنا في اللغة كما يقول الفيلسوف فتجنشتين, وبذلك حلها يكمن في استعمال المفاهيم بشكل سليم لغوياً أو في إصلاح لغتنا بالذات. من هنا اللغة هي المصدر الجوهري في إيصالنا إلى المعرفة وحل مشاكلها (صلى الله عليه وسلمditor : Richard M. Rorty :The Linguistic Turn.1992.University of Chicago Press). وتطورت هذه الثورة اللغوية فشهدنا ولادة السوبر لغة.
صاغ الفيلسوف بيار ليفي مصطلح السوبر لغة ليعبّر به عن الثورة المعلوماتية التي أصابت العقل واللغة. تتجسد السوبر لغة في تبادل الأدوار بين القراءة والكتابة. لم يعد يوجد فرق حقيقي بين القارىء والكاتب. فالقارىء يعيد خلق النص من خلال تفسيره أو تأويله على ضوء ما يستنتج منه أو على أساس معارفه المسبقة. هنا يصبح القارىء هو الكاتب أيضاً. أما الكاتب فيكتب على ضوء قراءاته, وبذلك يغدو الكاتب قارئاً أيضاً. والثورة التكنولوجية مصدر نشوء السوبر لغة لأن بفضلها نجحنا جميعاً في إعادة صياغة المعلومات والنصوص من خلال استعمال الأنترنت مثلاً والمشاركة في خلق معلوماته. بالنسبة إلى ليفي , السوبر لغة هي مجموع الوسائل الاعلامية والثقافية التكنولوجية المتاحة للجميع على رأسها الأنترنت والتي تسمح لكل الأفراد أن يتفاعلوا مع كل الأفراد ما يؤدي إلى جعل الجميع أذكياء بسبب إمكانية اكتسابهم المعارف والمعلومات كافة من خلال تلك التكنولوجيات. الذكاء الجماعي نتيجة حتمية للسوبر لغة لأن بفضلها يتبادل المبدع والمتلقي الأدوار. فالذكاء الجماعي يتضمن مشاركة الجميع في إنتاج المعلومات وتلقيها. كما أن السوبر لغة المتمثلة بالفضاء الثقافي الافتراضي تتيح للديموقراطية أن تنمو وتزدهر لأنها في الأساس تمكنا من التعبير بحرية عن أفكارنا ورغباتنا ونشرها والترويج لها (Pierre levy: Toward Superlanguage. & Cyberculture.2001.University of Minnesota Press). لكن تعاني نظرية بيار ليفي من مشكلة مفادها أنها لا تقبل التعميم؛ فهي غير صادقة في حال تطبيقها على العالم العربي. هذا لأننا نستخدم التكنولوجيا وما تتضمن من فضاء ثقافي افتراضي من أجل شن المعارك ضد بعضنا البعض ونشر التخلف والتعصب. التكنولوجيا ليست مفيدة أو سيئة بذاتها بل هي مفيدة أو سيئة حسب استعمالنا لها. بينما الغرب يستخدمها بشكل مفيد له , نحن حالياً نستغلها من أجل إلحاق الأذى بأنفسنا. فرغم أن العالم يسير على خطى السوبر لغة, اخترعنا نحن اليوم لغة جديدة هي اللغة المستحيلة تتويجاً لعصر سوبر تخلفنا.
اللغة المستحيلة هي اللغة المتناقضة. لقد تمكنا في عالمنا العربي المعاصر من بناء لغات مستحيلة والدفاع عنها. فمعظم نصوصنا وخطاباتنا تقع في التناقض. هذا يعني أننا نقول الشيء ونقيضه في الخطاب ذاته وفي العبارة نفسها. فمثلاً, ندعي في لبنان أننا نحيا في بلد ديموقراطي. لكن هذا الادعاء متناقض لأن لا ديموقراطية في ظل نظام طائفي ومذهبي يعامل مواطنيه على ضوء طوائفهم ومذاهبهم بدلاً من معاملتهم على أساس أنهم مواطنون متساوون. كما أن كل نظام عربي حالي يؤكد هو ومناصروه من سياسيين ومثقفين على أنه يحافظ على الحريات ويحترم
¥