ملتقي اهل اللغه (صفحة 10992)

وبعد فهذه هي المرة الأولى التي أخرج فيها كتاباً لعلي الطنطاوي ـ رحمه الله ـ لا جامعة تجمع مقالاته إلا الزمن ولا رابطة تربط بينها إلا سِنَّهُ يوم نشرها أول مرة. ولكنها ليست المرة الأولى التي يقرأ فيها القراء مقالات قديمة له فقد نشر في أول حياته كتباً ثلاثة أودع فيها بواكير مقالاته فأصدر الهيثميات سنة 1930 ثم أصدر في بلاد العرب سنة 1939 ومن التاريخ الإسلامي في السنة التي بعدها. هذه الكتب ضمت عشرات من المقالات التي نشرها في تلك السنوات المبكرة من حياته ورغم أنها قد نفدت نسخها واختفت من الأسواق من عهد بعيد ولم يُعد طباعتها قط إلا أن مادتها لم تَضِعْ فأكثر ما فيها من مقالات انتقل إلى الكتب التي أخرجها لاحقاً والتي ما زالت تُنشر ويتداولها الناس ولو أنكم فتحتم كتاب من حديث النفس مثلاً وراجعتم مقالاته لوجدتم أن نصفها قد كُتب بين سنتي 1931 و 1939 وقريب من ذلك كتاب فكر ومباحث أما كتاب قصص من التاريخ فتكاد تكون مادته كلها مما نشر في تلك الأيام بل إني قد أحصيت في الكتب المنشورة أكثر من مئة وعشرٍ من المقالات التي نشرها علي الطنطاوي في الجرائد والمجلات قبل نهاية عام 1939.

لقد وجدت كثير من بواكير علي الطنطاوي طريقها إلى الكتب التي نشرت وقرأها الناس وبقيت في يدي بقية مما لم ينشر في كتاب قط فلما عزمت على جمعها وإخراجها في هذا الكتاب أردت أن أضمّ إليها ما أستطيع الوصول إليه مما نُشر من قديم ثم ضاع فلم يبق له أصل فانتدبت من تكرم مشكوراً بمراجعة قسم الدوريات القديمة في مكتبة الأسد بدمشق وأمضى فيها أسابيع طويلة غارقاً في سجلاتها المحفوظة حتى استخرج منها طائفة من المقالات لم تكن في يدي فاشتغلت فيها وفيما كان معي من قبل ومن هذه المقالات وتلك جاء هذا الكتاب.

على أني لم أنشر كل ما وصلت إليه من البواكير بل إن الذي طويته يزيد على ما أنشره منها اليوم في هذا الكتاب فقد وجدت أن مقالات كثيرة منها كانت مرتبطة بحوادث عابرة أو بقضايا يومية وأمثال هذه المقالات قصيرة العمر وأكثرها من النوع السياسي الذي يعالج مشكلات وقتية ثم تنقضي الحادثة وتنتهي القضية فلا تبقى للمقالة قيمة ولا يبقى بعد هذه السنين الطويلة من يذكر الحادثة أو يهتم بها أو يفهم الإشارة إليها.

وأخيراً واجهت مشكلة ترتيب مقالات الكتاب فهممت حيناً بأن أرتبها حسب موضوعاتها ثم وجدت أن الموضوع لم يكن هو الأساس الذي بُني عليه الكتاب فأعرضت عن هذا الخاطر وفكرت حيناً آخر بترتيبها اعتماداً على الجريدة التي نشرت فيها فأضم مقالات " القبس " بعضها إلى بعض وأجمع مقالات " فتى العرب " معاً وهكذا لكني أعرضت عن هذا الخاطر أيضاً. ثم انتهيت إلى ترتيبها في الكتاب كترتيب نشرها فما دام الجامع الذي جمع هذه المقالات معاً وأنشأ منها هذا الكتاب هو الزمان الذي نشرت فيه فليكن أساس ترتيب المقالات هو الزمان وكذلك كان.

وقد بدأت الكتاب بأقدم البواكير نشراً وكلما مضى القارئ في الكتاب قُدُماً سيتقدم في السنوات ثم اجتهدت فعملت في هذا الكتاب ما لم أعمله في سواه مما نشرته من قبل وهو أنني حرصت على أن أثبت في أول كل مقالة موضع نشرها وتاريخه فذكرت اسم الجريدة التي نُشرت فيها وتاريخ نشرها باليوم والشهر والسنة وإنما حملني على ذلك أنني ما زلت أحس ـ وأنا أشتغل بهذا الكتاب ـ أنني أقدم فيه تاريخ علي الطنطاوي نفسه وليس فقط سجلاً لكتاباته في تلك السنوات المبكرة من حياته!

لقد ظن جدي ـ رحمه الله ـ أن إنجاز هذا العمل من المستحيلات لكن الله ذلل الصعب وجعل ـ بفضله ـ المستحيل ممكناً قال في أول الحلقة السادسة والثلاثين من الذكريات: " في الأشهر الخمسة التي لازمت فيها فتى العرب كنت أكتب كل يوم مقالة منها سلسلة كان عنوانها أحاديث ومشاهدات ... هذه المقالات ضاعت مني ما بقي لدي منها إلا أربع ولو كان يتحقق في الدنيا المستحيل وخطر على بال أحد يوماً (بعد موتي) أن يطبع كل ما كُتب واستطاع أن يجد مجموعة أعداد فتى العرب لوجدها فيها ".

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015