وتمادينا في الوقوف بموقف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشرف وكرم إلى أن غربت الشمس وتفرق الجمع وأفاض الناس، وجاء أمير مكة الشريف أبو نمى محمد بن أبي سعد الحسنى في جيشه، ووقف ما بين موقف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومصلى الإمام، وفي ذلك الوقت أفضنا وتركناه.
وكان مما أجرى الله على لساني في تلك العيشة المباركة: اللهم أنا قد تذللنا إليك ثقة بعفوك، وتدللنا عليك ثقة بكرمك.
وكنت في تلك الليلة قد قدمت ثقلي مع الراحلة وبقيت مخفا فلما كان عند آخر عرفة ونحن نريد سلوك طريق المأزمين إذ هي الجادة إلى مزدلفة، ومحل الأمن، وهو بين العلمين اللذين في حد الحرم من تلك الجهة، والمأزم بكسر الزاي، ومعناه المضيق بين الجبلين، وكان معي ثلاثة نفر من صحبي، لقينا الشيخ الفقيه العالم الزاهد الورع أبا على عمر بن الصواف نزيل الإسكندرية نفع الله به مع رفيق له، وكان ذلك الرفيق شديد الدربة حسن المعرفة بالطريق، وبتلك الأماكن الشريفة، فصحبناهما للاقتداء بهما، وكان الشيخ الفقيه أبو علي يقول لنا: اسلكوا الطريق الوسط يعني التي هي طريق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا أن تغلبوا عليها، فكنا نسلك نعم الطريق، فإذا غلبنا عليه بشدة الزحام تعلقنا بالجوانب إلى أن بلغنا مزدلفة بعد مغيب الشفق، فقلت للشيخ أبي علي عندما شارفنا مزدلفة: إني لست على وضوء وليس لي ماء، فأشار إلى إتباع الحكم الشرعي: إن وجد الماء وإلا فالصعيد، وكنت شديد الظمأ، لأني كنت قد فارقت رحلي مع حركة المشي.
فلما وافينا المزدلفة أخرج من عند رفيقه زميزمية صغيرة جدا، من التي يصنع في اليمن، تخفى تحت إبط الحامل بحيث يواريها إبطه فأفرغ لي منها فشربت، ثم