ولما وصلنا ذا الحليفة أو نحوها نزلنا من الأكوار، واحتدم الشوق لقرب المزار، وكان صاحبي ورفيقي الوزير الفاضل الأديب الحافل الماجد الكامل أَبُو عَبْدِ اللَّهِ منحه الله العافية ومسح عليه بيمينه الشافية، قد أصابه رمد، فعند معاينته تلك المعاهد الكريمة أحس بالشفاء من ألمه، فبادر إلى المشي على قدمه، احتسابا لتلك الآثار، وإعظاما لمن حل تلك الديار، وأنشدنا لنفسه في وصف الحال، وكتبه لي بعد بخطه:
ولما رأينا من ربوع حبيبنا ... بيثرب أعلاما أثرن لنا الحبا
وبالقرب منها، إذ كحلنا جفوننا ... شفينا، فلا بأسا نخاف ولا كربا
وحين تبدى للعيون جمالها ... ومن بعدها عنا أديلت لنا القربا
نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة ... لمن حل فيها أن نلم بها ركبا
ولما قضينا واجب السلام على خيرة الأنام، وصاحبيه المفضلين المقدمين في الصحب الكرام، المخصوصين بما لم يخص به أحد من أهل الإسلام عدنا إلى رحالنا، وكانت إقامتنا هناك بقية يوم الخميس ويوم الجمعة بعده ويوم السبت وصدر يوم الأحد، نتردد إلى الصلوات، والى تحيته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحبيه رضي الله عنهما بأكرم التحيات، ورأينا من فعل الوافدين أنهم إذا فرغوا من الصلاة أدرات الصفوف كلها أعناقها إلى أيسارها، وقالت برفيع من أصواتها: السلام عليكم أيها النبي ورَحِمَهُ اللَّهُ تعالى وبركاته، ولم نر من ينكر ذلك الفعل، ولا بلغنا أيضا قول عن السلف رضوان الله عليهم، فأنا لا أنكره ولا أعرفه ذكر بعض ما جرى لي هنالك: قرأت مكتوبا في وجه الخزانة الكريمة التي تقابل المتوجه إلى الروضة الكريمة، وهي التي يضع الناس فيها الكتب الواردة بالتسليم عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذين البيتين مكتوبين ببياض في سواد: