يقول الإمام علي رضي الله عنه: غرس الزهد بقلبي شجرة، فالزهد زرع في قلب سيدنا علي شجرة، حتى وإن كان أغنى الأغنياء فهو زاهد، حتى وإن كان يملك الملايين لكنه زاهد، والشخص لا يوجد معه شيء لكنه شره ليس بزاهد، هناك نوعيات هكذا، قال الإمام علي رضي الله عنه: غرس الزهد بقلبي شجره ثم نقى بعد جهد حجره وسقاها إثر ما أودعها كبد الأرض بدمع فجره وإذا ما رأى طيراً مقبلاً حائماً حول حماها زجره نمت في ظل ظليل تحتها روح القلب ونحى ضجره ثم بايعت إلهي تحتها بيعة الرضوان تحت الشجره كلام سيدنا علي كلام عالم، إذ جعل الزهد بقلبه شجرة، ثم أنزل الأشياء السيئة التي عليها، ورقق القلب بالبكاء والخشية والتباكي، ولما رأى الطير مقبلاً صاحب هوى ودنيا وحرص وبعد عن الله، أخذ يطرده حتى تكون الشجرة صافية وسليمة، فلما كان كذلك، بايع الله هناك تحت الشجرة كما بايع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيعة الرضوان.
جاء رجل فقال: يا علي! عندي مرض، قال: ما مرضك؟ قال له: البعد عن الله، قال له: عليك بعروق الصبر، وعصير التواضع، وضع ذلك في إناء التقوى، وأوقد عليه بنار الحزن، واسكب عليه من ماء الخشية، وتمضمض بالتقوى والورع، وأبعد نفسك عن الحرص والطمع، تشف من مرضك بإذن الله.
فهذه الوصفة: تقوى، وتواضع، وصبر، وتوكل، وصدق نية، وحزن على ما مضى من الذنوب، ليس حزناً على الأرض التي ضاعت.
دخل رجل أسود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! قرأت في القرآن: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] أيمنعني سوادي من دخول الجنة؟ فتبسم الحبيب صلى الله عليه وسلم وقال: (بل أنت في الفردوس الأعلى)، ففاز بها هذا هذا الرجل الأسود؛ لأنه كان يريد أن يطمئنه من الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقال له: أنت في أعلى درجة.
ولذلك الأم لما وجدت ابنها في أحد قالت له: يا رسول الله! حارثة ابني في النار فأبكي عليه الدهر كله، أم في الجنة فأصبر واحتسب! انظر إلى الأم العاقلة، إن كان في النار فسأبكي عليه، وهذا صحيح، لأن نهايته سيئة، وإن كان في الجنة فلماذا أبكي عليه؟! فقد انتقل من دار إلى دار التكريم، قال: (إن الجنة درجات، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى منها يا أم حارثة).
وأم قتادة رضي الله عنها كانت بعد أن يغادر الصحابة المسجد تقوم بتنظيفه، فعندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم ماشياً في البقيع وجد قبراً جديداً، فقال: (قبر من هذا؟ قالوا: يا رسول الله! قبر أم قتادة، قال: ولم لم تعلموني بها؟ قالوا: يا رسول الله! ماتت في حر الظهيرة أمس، وخشينا عليك من شدة الحر، قال: أما علمتم أن من صليت عليه صلاة الجنازة وجبت له شفاعتي يوم القيامة؟! فصف الصحابة صفوفاً وصلى ثم قال: يا أم قتادة! السلام عليك ورحمة الله، أي الأعمال خيراً وجدتِ عند ربك؟ ثم أطرق بأذنه، وقال: أتسمعون ما أسمع؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: لو سمعتم ما أسمع لسمعتم أم قتادة تقول: خير ما وجدت عند الله في كتاب حسناتي تعمير بيوت الله عز وجل).
فتعمير بيوت الله يكون بالزيارة والنظافة والتعبد فيها، فلا يدخل المسجد من أجل أن يسرق أو يفتري، ولا يدخل الجامع من أجل أن يؤذي، أو يدخل الجامع من أجل أن يجعل المسجد وسيلة ارتزاق أبداً، ومادام العالم والمتكلم والمحدث يأخذ أجراً على ما يقول فإنه يشك في علمه، إلا إذا لم تكن له إلا هذه المهنة، لكن يجب أن يكون متواضعاً وقنوعاً وراضياً بالقليل وسيبارك الله له.
لكن المساجد ليست وسيلة ارتزاق، وإنما هي بيوت الله عز وجل، يجب أن نعمرها بالتقوى وبالإيمان والعمل الصالح.