التقى أبو بكر رضي الله عنه بـ حنظلة غسيل الملائكة، فقال له أبو بكر: كيف حالك يا حنظلة؟! قال: والله قد نافق حنظلة يا أبا بكر! قال له: لماذا؟ قال: نكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنشعر أننا نطير في السحاب، فإذا عدنا إلى بيوتنا عافسنا الأزواج والذرية والطعام والشراب فعدنا إلى ما كنا فيه.
قال له: وأنا كذلك يا حنظلة! أبو بكر أصبح منافقاً من وجهة نظره؛ لأننا منذ قليل قلنا: حسنات الأبرار سيئات المقربين.
فدخل الاثنان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالا: نافقنا يا رسول الله! لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] فما من مسلم يشاك بشوكة إلا يجد ألمه في قلبه صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم لجبريل: (يا جبريل! من لأمتي من بعدي؟ فسأل جبريل ربه فقال: نبئ محمداً أننا لن نسوءه في أمته وسوف نرضيه، فقال: لا أرضى وأحد منهم في النار، يقول الله عز وجل: يا جبريل نبئه أن كل من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله لن يخلد في النار).
أي: لا يدخل الجنة مباشرة، فإن كان عليه عقوبات يقضي مدة العقوبة نسأل الله سبحانه وتعالى أن يدخلنا وإياكم الجنة بدون سابقة عذاب، من كرمه وفضله ومنه وجوده.
عاملنا بفضلك يا ربنا! ولا تعاملنا بعدلك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر وحنظلة رضي الله عنهما: (يا أبا بكر! يسروا ولا تعسروا، يا أبا بكر! لو أنكم تدومون على ما تكونون به عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولزارتكم في بيوتكم).
يعني: لو أن هذه الحالة الإيمانية تبقى عالية جداً لكانت الملائكة تقابلكم في الطريق وتسلم عليكم وتزوركم في بيوتكم، قال: (ولكن يا أبا بكر! ساعة وساعة) يعني: ساعة مع إيمان عال جداً، وساعة مع الدنيا وما فيها.
لكن المصيبة أن نقول: ساعة لربك وساعة لقلبك، والله يا مسلم إن أربعاً وعشرين ساعة تكون لقلبك، وتبحث عن وقت لربك فلا تجد إلا الصلاة تصليها ولا تزال مشكوكاً في أمرها.
قال الصحابة: كان عمر يخفف بنا في صلاة المغرب والعشاء -وهو أمير المؤمنين يصلي بهم- فكان يقرأ من مائة إلى مائة وخمسين آية من سورة البقرة ويقول: لقد خففنا كما أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم، أما نحن ففي رمضان تجد المصلين يقولون للإمام: كن رحيماً وخفف قليلاً، وتراهم يحفظون الأحاديث فيقول أحدهم: (الطبق يستغفر للاعقه)، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى بالناس فليخفف) فليخفف بالنسبة لتخفيفك أنت أم تخفيف سيدنا عمر أم تخفيف الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ يقول: (كان صلى الله عليه وسلم يخفف في صلاته، فكان بلال يقيم صلاة الظهر، فنترك أعمالنا، فنذهب إلى البقيع لقضاء الحاجة، ثم نتوضأ وندخل المسجد فندرك الرسول صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى) هذا هو التخفيف، والمصيبة أنه يرد عليك ويقول: يا أستاذ! هذا زمن غير الزمن الأول، فكن حلواً! جاء رجل في العام الماضي بعد يوم عشرين من رمضان فقال: ماذا يا مولانا! خير؟! فقلت له: خيراً إن شاء الله، قال: أنت نسيت: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] أم ماذا؟ لقد كنت حسناً عندما كنت تقرأ آيتين وتقلب، ثم تقرأ آيتين وتقلب، فقلت: ماذا ستقلب يا بني؟! حتى الأسلوب نفسه لا أدب فيه، وكأنه يشتم.
فهذا الشخص لو عرف الفائدة التي في سورة الإخلاص لما قال ذلك، إن الحرف في كتاب الله عشر حسنات، فعندما تقول: الم، يعني: ثلاثون حسنة، وتقول: بسم الله الرحمن الرحيم فيها تسعة عشر حرفاً، وعدد زبانية جهنم تسعة عشر ملكاً، ويقولون: إن الذي ينطق البسملة، فكل حرف يمنع عنه واحداً من زبانية جهنم، وهذا من ملح التفسير وليست من أصول العلم.
إن الله سبحانه وتعالى يقول: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1] فالصبح مثنى، والمغرب ثلاث، والعشاء والظهر والعصر أربعاً أربعاً، فيقولون: الذي يواظب على الصلاة ويصلي الصبح فكأنما يصير ملكاً من الملائكة له جناحان, والذي يحافظ على المغرب جيداً يصير كأنما هو ملك له أجنحة ثلاثة، ومن صلى الرباعية فكأنما صار ملكاً له أربعة من الأجنحة.
أقول: هل هناك أحد يكره أن يكون ملكاً؟ يقول الرجل: هذا ابني مثل الملك، من أخلاقه وهدوئه وأدبه.
فحرف في المصحف بعشرة والصلاة بمائة، يقولون لـ أبي حنيفة: في كم تختم القرآن يا أبا حنيفة؟! قال: في الصلاة أم في خارج الصلاة؟ فهو استغرب من السؤال فانظر إلى الرد، يريد أن توضيح السؤال، يقولون له: أنت تختم القرآن في كم؟ قال: في الصلاة أم خارج الصلاة؟ قالوا له: في الصلاة، قال لهم: في صلاة الليل أم في صلاة النهار؟ فهذا هو العالم الذي يصلى خلفه، ليس أيَّ عالم يأتي ليؤدي واجباً ويذهب.
قالوا: في صلاة الليل، قال: في الليلة أصلي بعشرة أجزاء، فأختم المصحف في صلاة الليل كل ثلاثة أيام مرة.
عاش أبو حنيفة من سنة (80هـ) إلى سنة (150هـ) أي: عمر سبعين سنة، فكان يقوم نصف الليل وعمره عشر سنين، واستمر على ذلك حتى أصبح عمره ثلاثين سنة، فكان عبد ينام العشاء ويقوم في نصف الليل يصلي حتى الفجر.
وفي السنوات الباقية من حياته كان يتوضأ العشاء ويصلي بها صلاة الصبح بالمسلمين، حتى لا يلقى الله منافقاً يوم القيامة.
قالوا للحسن البصري: كيف تختم القرآن؟ قال: أختم المصحف في كل جمعة مرة، وفي كل شهر مرة، وفي كل سنة مرة، وفي عمري مرة، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: أختمه في كل جمعة مرة قراءة ترتيل، وفي كل شهر مرة، أتمهل في القراءة كل يوم من أجل يبدأ التدبر.
ويختمه في عمره مرة كلما يمر على آية يتوقف عندها، وينظر ما هو الحلال وما هو الحرام، وما هو المحكم وما هو المتشابه، والمختلف في التفسير.
قال الحسن البصري لـ ابن سيرين: والله أراك تفسر الرؤى كأنك من آل يعقوب، يعني: كأنك من سلالة يوسف.
فقال له ابن سيرين: وأنا أراك تفسر القرآن كأنما رأيت التنزيل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فنريد أن نقول: إن مجالس العلم خير كلها، ولا شيء يعدل مجلس العلم، فقد ثبت على مر السنين إخوة كثيرون كانوا معنا، وصلتهم يد الردى وصاروا تحت أطباق الثرى، ورآهم إخوة نحسبهم على خير، -وإن كان هذا لا يقعد قاعدة- لكن أقول: إن هذه من ضمن الرؤى التي تدل على أن إخواننا الذين نحسبهم على خير رءوا إخوانهم الذين سبقوهم يقولون: قولوا لفلان أن يطيل قليلاً في دروس العلم؛ لأننا وجدنا فيها الخير كله.
نسأل الله أن يجعلها خالصةً لوجهه الكريم، وأن يجعلنا وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.