النوع الثاني وهو أهم: طهارة الجوارح من الآثام والمعاصي: ومن فضل الله علينا أن الأشياء التي سنحاسب عليها أعطانا ربنا باباً نقفل به على هذا الشيء، من أجل ألا يعمل وقت ما نريد، وأسوأ ما عندنا هو اللسان، وعندما لا تريد أن تتكلم تقفل فمك.
ولذلك أبو بكر رضي الله عنه كان يضع حصاة في فمه تحت لسانه، فإذا أراد أن يتكلم يمسكها بيده ثم يتكلم، قال أبو بكر: أنا أضع حصاة في فمي من أجل أن يثقل لساني، فإذا أردت أن أتكلم أخرج الحصاة فأكون قد فكرت في الكلمة هل هي صحيحة أم هي خطأ؟ فإن كانت صحيحة قلتها، وإن كانت خطأ لا أقولها.
إذاً: يجب أن يكون لسان العاقل خلف عقله، ولسان الجاهل أمام عقله، قيل للحسن البصري: لماذا تتكلم في اليوم سبع أو ثمان كلمات؟ قال: قبل أن أقول الكلمة أسأل نفسي هل توضع لي في ميزان الحسنات أم توضع لي في ميزان السيئات؟! فإن وجدتها توضع في ميزان الحسنات قلتها، وإن وجدتها توضع في ميزان السيئات امتنعت عنها، فرأيت أن أكثر كلماتي سوف توضع في ميزان السيئات؛ فلذلك سكت! يقول تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] انظر كم مضى من عمرك وأنت تتكلم؟ لا تحسب الثلاثة عشر عاماً؛ لأنك لا زلت صغيراً، فيكون لك سبع وأربعون سنة وأنت تتكلم فيها، فلو تكلمت في اليوم ساعة أو ساعة ونصفاً صار لديك خمسمائة ساعة في السنة، وأنا أضرب هذا المثال لشخص ما أحد يسمع صوته، سبحان الله خمسمائة ساعة في السنة، وطوال الخمسين سنة التي تكلمت فيها والملك يكتب عنك! ولذلك جعل مالك بن دينار رضوان الله عليه يبكي ويبكي، فقيل: ما يبكيك يا مالك؟ قال: بلغت اليوم ستين سنة وحسبت أيامي فوجدتها واحداً وعشرين ألف يوم وخمسمائة، فلو عملت في كل يوم ذنباً واحداً فقط، كيف ألقى الله بواحد وعشرين ألف وخمسمائة ذنب؟! هذا مالك بن دينار لكن اضرب أنت في ألف ذنب أو ألفين، أين تذهب يا عبد الله؟ الواحد منا يجب أن يستيقظ ويراجع نفسه، وليس كل شيء لا بد أن تتكلم فيه، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع) يعني: يجب أن تحبس لسانك قليلاً، لكن نحن نسمع الكلمة فنضاعفها إلى عشرين كلمة! كذلك النظر! فلا تفكر أن النظر إلى عرض المسلمين هذا هو الحرام فقط، لا.
هذا جرير يقول: إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله إنسانا العينان ممكن أن تنظر بهما إلى إنسان باحتقار، فتنظر إلى المسلمين بازدراء أو بالشماتة والعياذ بالله، وهذا نظر حرمه الله عز وجل، إذاً: كيف يكون النظر بالعينين؟ انظر للمسلمين بالرحمة والعطف والرفق، تأخذ على النظرة ثواباً إذا نظرت إلى الناس برفق، فمثلاً: أنظر إلى اليتيم لأنني لا أستطيع أن أنفق عليه، وأقول: اللهم ارحم أباه، اللهم بارك في الولد أو البنت وأعن أمه أو أمها.
كذلك أنظر بالعينين إلى المصحف، والحسن البصري كان إذا كان مريضاً فتح المصحف ونظر فيه، وإذا أردت أن تكلم الله فأحرم بالصلاة، وأنت تصلي كتبت الصلاة بينك وبين ربك، فتتكلم وربنا يسمعك، وهذا من فضل الله عز وجل ولله المثل الأعلى! إذاً: أعطاني ربي عينين من أجل أن أحفظ المصحف، وأنظر إلى بيت الله، وأنظر إلى الطرقات، وأنظر إلى ملكوت الله، وأنظر إلى الكعبة، وأنظر إلى العالم الصالح، وأنظر إلى وجه الأب والأم، كل هذا نوع من أنواع العبادة، والملائكة تكتب لك حسنات وأنت تنظر إلى وجه أبيك وأمك برحمة وحنان.
قال صلى الله عليه وسلم: (من نظر إلى وجه أبيه أو إلى وجه أمه برحمة نظر الله إليه، ومن نظر الله إليه فلن يعذبه يوم القيامة).
إذاً: طهارة الجوارح من الآثام والمعاصي، فاللسان لا يتكلم إلا بخير، والعينان لا تنظران إلا إلى ما أحل الله، واليد جعل الله لي الخيار أن أمدها في خير أو شر والعياذ بالله، فإن مددت اليد بخير كتب لك حسنات، وإن مددتها بشر كتب عليك سيئات.
أبو حازم رفض أن يناول أمير المؤمنين الحبر، قال: أخاف أن يكتب شيئاً يظلم به مسلماً فأكون مشاركاً له في الإثم يوم القيامة.
ولذلك جاء رجل خياط وقال: يا تلميذ أبي حنيفة: أنا كنت أخيط أثواب الحجاج؟! فقال: أنت كـ الحجاج، قال: وأنا ما ذنبي؟ أنت لو فاصلته وهذا فاصله كان سيراجع نفسه، أي: سيقول: لماذا يكرهني الناس؟! لماذا لا يحبني الناس؟! كان ابن عمر يقف في الصلاة إلى جوار الكعبة، فتحط حمام الحرم على رأسه، دليل على أنه يقف مدة طويلة حتى تظنه قطعة من الأرض؛ لأنه بقي مدة طويلة لا يتحرك، فهؤلاء هم الناس.
داود الطائي صلى العصر وسلم عن يمينه وشماله، والتفت فلم يجد أحداً، والجامع كان مليئاً فسمع صوتاً في الخارج، فخرج وقال: أين ذهبتم؟ قالوا: هذا عمود في الجامع وقع في الخلف، فوقع السقف على الناس فهربوا، وهو لم يشعر بذلك، وهذا فيه دليل على أنه كان خاشعاًَ.
جاء رجل إلى أبي حنيفة وقال: يا أبا حنيفة! بعت بيتاً من بيوتي، ووضعت المال عندي في البيت ثم نسيت مكانه، قال: وأنا ما ذنبي؟ قال: ألست عالمنا؟! ألست شيخنا؟! أخبرني أين المال! فقال له: عد إلى بيتك وقم لله الليلة، وصل لعل ربنا يعلمك ويعرفك، فجاء الرجل في صلاة الفجر وفمه مفتوح جداً، فقال له أبو حنيفة: لقد وجدت نقودك، قال: وكيف عرفت يا أبا حنيفة؟ قال: يظهر على وجهك، فقال له: ماذا حدث؟ قال: بينما أنا أكبر تكبيرة الإحرام في الركعة الأولى وقد نويت أن أقوم الليل كله، تذكرت مكان النقود، فخرجت من الصلاة! فقال له: أبو حنيفة: ثم نمت؟ قال: نعم، قال: كنت أثق أن الشيطان لن يدعك تتعبد لله الليلة، إذاً: النية لم تكن خالصة لله عز وجل، والشيطان لا يترك الإنسان أبداً.
فهذا داود الطائي قالوا له: كيف لم تشعر بسقوط سقف المسجد؟ فقال لهم: أنا إن جاء وقت صلاتي أسبغت وضوئي، أي: أتوضأ جيداً، وجلست في المكان الذي سوف أصلي فيه حتى تجتمع جوارحي -أي: نفسه ليس لها هم بالدنيا- ثم أقوم أكبر للصلاة.
وكلنا نكبر، لكن كلنا نخدع أنفسنا في التكبير، لأن معنى (الله أكبر) أنه أكبر من كل شيء، لكن من الخطأ أن أسرح في الصلاة عند الولد أو البنت أو الدراسة أو الفلوس أو المرتب أو العلاوة أو أذى الزوجة أو الجار أو صاحب البيت أو أو يجب أن تحقق ما قلت، فعندما تقول: الله أكبر، تستشعر أنه لا يوجد أكبر من الله.
قال: ثم أقرأ قراءة بترتيل، وأركع ركوعاً بخشوع، وأسجد سجوداً بتواضع، واضعاً الجنة عن يميني، والنار عن يساري والصراط تحت قدمي، والكعبة بين حاجبي، وملك الموت ورائي؛ كي أظن أنها آخر صلاة لي، وأتبع ذلك بالإخلاص في النية، ثم لا أدري أقبلها مني رب العباد أم لم يقبلها؟! فهؤلاء هم الصالحون، يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: (أول ما ينظر في عمل العبد يوم القيامة ينظر في صلاته إن وجدت كاملة قبلت وسائر عمله، وإن وجدت ناقصة ردت وسائر عمله).
إذاً: النوع الثالث من الطهارة: طهارة الجوارح من الآثام والمعاصي، فلا تمشي إلا إلى كل خير، تذهب في الخير، وتسعى في الخير، وكان يحيى بن زكريا عليهما السلام يقول: اللهم إن رأيتني أغادر مجالس الذاكرين إلى مجالس الغافلين فاكسر لي رجلي.
وتعال إلى البطن وما حوى، إن العبد ليقذف باللقمة الحرام في جوفه لا يتقبل الله له عملاً أربعين يوماً، سيدنا أبو بكر وضع إصبعه في فمه وأرجع شربة اللبن، لما شك في مصدرها، ونحن لا نبحث هل هي شبهة أو ليست شبهة؟ وهل هذا حرام أم ليس بحرام؟! وهل هذا سحت أم ليس بسحت؟! نسأل الله السلامة.
يقول صلى الله عليه وسلم: (يا سعد! أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، فوالذي نفسي بيده، إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه لا يتقبل الله له عملاً أربعين يوماً).