والمتأمل لهذه الأقاويل والنزعات العقلية، يتبين له أن العقل البشري عقل قاصر عن إيجاد حلول ثابتة وصالحة لكل الأزمان والأجيال والأعصار، والأخطر من ذلك في مسلكهم هذا ذوبان الشريعة الإسلامية وأحكامها على مر العصور، حيث أننا لو تعاملنا مع نصوص الكتاب والسنة كما تقدم آنفاً بهذا المنطلق المنعزل عن فهم الوحي وفق المراد الرباني والنبوي الصحيح، لأدى ذلك إلى نقصان الأحكام الشرعية في شتى مجالات الحياة سياسية كانت أو اقتصادية أو أخلاقية أو تعبدية أو عقدية أيضاً، ولأدى إلى ذوبانها على مر العصور والأزمان فرأينا شريعة وأحكاماً متناقضة تماماً مع الوحي المعصوم من الكتاب والسنة، لأن هذه المدرسة وقفت من نصوص الوحيين المعصومين موقفاً متناقضاً، حيث يقولون إذا تعارض العقل والنقل قدم العقل على النقل، ولا ريب أن هذا سخف من القول وضلال، إذ إن موجب العقل يقتضي خلاف ما ذهبوا إليه، لأن الله تعالى ما أوجد العقل ليتناقض مع وحيه المنزل، هذا من وجه، أما الوجه الآخر أن نصوص الكتاب والسنة لا يكون فيها اختلاف ولا تعارض في الأصل، لأن الله تعالى لا يجمع في شريعته ودينه ما يخالف بعضه بعضاً وينقض بعضه بعضاً، إنما التعارض في قصور الفهم الصحيح لمراد الله تعالى ومراد رسوله، وقد تكلم الفقهاء والأصوليون في هذه المسائل وبينوا طرقاً كثيرة في رفع توهم التعارض بين النصوص الشرعية. وأما الوجه الثالث: أنهم ما حققوا الإيمان والتسليم لمراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، إذ إن العقل يقتضي أن التسليم والإذعان من كمال الإيمان بالوحيين الصافيين القرآن والسنة، كما قال تعالى:" وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِينا"، وقوله تعالى": فلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيما "،وكلام على بن أبي طالب رضي الله عنه أن الدين لو كان بالعقل لكان المسح على الخفين من أسفل، فهذه المدرسة العقلية لا تحمل منهجا ً عقدياً صحيحاً واضحاً تقدمه لأتباعها والمخدوعين بها، ولا تحسن إلى اليوم إلا ضرباً من علوم المناطقة والفلاسفة، الذين عارضوا الشرائع بالآراء والفلسفات الكلامية، وهم يظنون أنهم على باب من العلم لا يحسنه غيرهم، فأنكروا الغيبيات كالملائكة وعذاب القبر ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم الحسية، ومنهم من وقع في التأويل الباطل الذي ليس له من الشرع دليل ولا برهان.
الثاني: المدرسة التغريبية، التي تفرعت هي الأخرى ما بين اتجاهات علمانية وماركسية شيوعية، وهؤلاء خلطوا كثيراً وتخبطوا كمن سبقوا في فهمهم لحقيقة السلفية ومذهب السلف، فقد أدخلوا كل منتمٍ للإسلام تحت أي مسمىً في مفهوم السلف والسلفية دون تمييز منهم بين المناهج والمعتقدات، وهذا مسلك خطير حيث يبن عورهم العلمي، وجهلهم التاريخي سواء للسلفية أو سائر الفرق المنسوبة للإسلام.