ونحن هنا لا نريد أن نقلل من أهمية الدعوة إلى محاربة الاستبداد ولا إلى إزالة الشرعية عن مشروع المطالبة بحقوق الأمة المسلوبة، فالدعوة إلى ذلك عمل شرعي واجب على عموم الأمة.
بل إن محاربة الاستبداد والمطالبة بحقوق الأمة يكون في كثير من الأحوال أولى وأوجب شرعا من الدعوة إلى محاربة بعض البدع التي لا تقدح في أصل الدين.
وإن الإنسان الحريص على الاكتمال في مشروع الإسلام الكبير يسعد حين يرى من يقوم بهذا الواجب الكفائي، تأصيلا وبيانا وتطبيقا، فلا يشك عاقل فضلا عن عارف بنصوص الشريعة أن هذا عمل جليل فاضل، ولا يشك عارف بالواقع في أن ما سلب من حقوق الأمة شيء كبير جدا، يوجب علينا مساندة من تكلف بالعمل فيه ومعاونته، ولكن هذا كله لا يبرر لنا أن نرفع من قدر الثورة على الاستبداد حتى نجعلها مزاحمة لمقصود العبودية لله تعالى، ولا يبرر لنا أن نجعل المعنى الأبرز في دعوة الرسل هو الثورة على الاستبداد، ولا يبرر لنا أن نجعل جوهر العبادة راجع إلى الحرية، ولا يبرر لنا أن نجعل كمال الدين مرتبط بكمال الحرية.
فمهما كان الخطأ الذي يتضمنه الاستبداد ومهما كانت الجريمة التي يتضمنها السطو على حقوق الناس، فهذا لا يبرر لنا أن نرفعها فوق القدر الذي تستحقه في الشريعة، أفرأيتم لو أن مجتمعا ما شاعت فيه فاحشة الزنى شيوعا كبيرا، فهل هذا الشيوع يبرر لمن أدرك خطورة هذه الفاحشة وأراد إصلاح ذلك الفساد أن يجعل محاربة الزنى محورا أساسيا في دعوة الرسل؟! ويصور للناس أن الرسل إنما جاءت حتى تمنع الزنى؟! ويستدل على ذلك بقصة لوط عليه السلام، أو أن مجتمعا شاع فيه الربا، فهل يحق لمن أراد أن يصلح هذا الخلل أن يجعل محاربة الربا محورا أساسيا في دعوة الرسل؟! ويصور للناس أن الرسل إنما جاءت حتى تمنع الربا؟!! ويستدل على ذلك بقصة شعيب عليه السلام.
وحين نقدم هذه الرؤية النقدية لا نريد أن ننكر على المختصين في مجال الحرية كثرة ذكرهم للظلم والاستبداد، ولا كثرة إلحاحهم على بيان خطورة السطو على حقوق الأمة، ولا نريد أن نلزمهم بالدعوة إلى التوحيد والعبادة أو بكثرة ذكره كما يفعلون مع الحرية، فإنا لو ألزمناهم بذلك لوجب علينا إلزام المشتغلين بالنحو والمشتغلين بالبلاغة والمشتغلين بأصول الفقه؛ أن يكثروا من الدعوة إلى التوحيد وبيان معانيه كما يكثر النحاة من ذكر الاسم والفعل والحرف، وكما يكثر البلاغيون من ذكر الاستعارة والتشبيه، وكما يكثر الأصوليون من الواجب والمندوب والقياس والنسخ، وهذا ما لم يقل به أحد.
فليس محل النقد إذن اللهج بمبدأ الحرية ولا كثرة الاشتغال به ولا التخصص فيه، وإنما ينحصر محل النقد في استعمال العبارات التي تجعل الدعوة إلى الحرية والثورة على الاستبداد محورا أساسيا في دعوة الرسل، ويدخل في النقد استعمال العبارات التي توحي باختزال مهمة الرسل في الدعوة إلى الحرية حتى قال بعض الكتاب: (إن عبودية الاستبداد تفوق عبودية الوثن).
فهي دعوة إلى التوازن في الطرح وتقدير كل شيء قدره بميزان الشرع.