ثم إنا لو عقدنا مقارنة بين لفظ (العبادة) ومفهوم (العبودية) وبين لفظ (الحرية) ومفهوم (تحرير الإنسان من الاستبداد) لوجدنا أن مفهوم العبودية يتضمن معاني لا توجد في مفهوم الحرية، فهو يحمل معنى الحب والذل والخوف والرجاء والإجلال، وهذه المعاني لا يتضمنها لفظ الحرية، وإذا كان الأمر كذلك فإنه لا يصح شرعا ولا عقلا ولا ذوقا أن نزاحم به لفظ العبادة الذي يتضمن معاني روحية عميقة بلفظ آخر مادي جاف، ولا أن نرفعه لنساويه به، وإنما يجب علينا أن نجعل مرتكز دعوة الرسل قائم على مفهوم العبودية لله، ونجعل المعاني الأخرى اللازمة له والناتجة عنه ومنها الحرية تابعة له لا مزاحمة ولا مساوية.

وهذا لا يعني أنا نمنع من استعمال لفظ الحرية في التعبير عن المعاني الشرعية بإطلاق، ولكن غاية ما يعني أنه لا يصح أن نجعله مساويا للفظ الشرعي في المعنى ولا في الدلالة المتضمنة.

ثم إنا لو طالعنا النصوص الشرعية لوجدناها تدل على أنه لا علاقة بين العبودية كمالا ونقصا وبين الحرية كمالا ونقصا، فقد يكون الإنسان كامل الدين مع أنه ناقص الحرية، فقد كان عدد من الصحابة من الرقيق والعبيد، ولا يصح أن نصفهم بنقص الدين لأنهم عبيد، فقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم بعضهم بالجنة وهو حي يعيش على الأرض، بل إن الشريعة أقرت نظام الرق والعبودية، وهو من أسوأ ما يضاد الحرية، ومع هذا لم تعد الشريعة هذا النظام مناقضا لأصل مفهوم العبودية لله تعالى ولا لكماله، ولو كان كذلك لسعت إلى محاربته كما سعت إلى محاربة عبادة الأوثان، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه الرقيق ليسلم بين يديه لم يكن يقول له إنك عبد مسلوب الحرية أو ناقصها، فلا تقبل منك عبودية الله أو لا يمكن أن تكون كامل العبودية، ولم يكن يحرضه على الثورة على سيده، بل كان يقبل منه إعلانه لتوحيده.

وهذه الدلالة من أظهر الدلالات وأقواها على أن الحرية لا يجوز لها أن تزاحم العبودية، وإنما هي متأخرة عنها بمراحل كبيرة، وكذلك يدل على أن الحرية ليست معنى أساسيا في التوحيد والعبادة؛ إذ لو كانت كذلك لما رضي النبي صلى الله عليه وسلم بوجود نظام يكرسها، ولابد لنا أن نؤكد على أن الدلالة في هذا الدليل راجعة إلى إقرار الشريعة لنظام الرق لا في إلزام السيد بالعدل مع عبده، فإن المطالبة بالعدل معه وبترك ظلمه لا يرفع عنه كونه مسلوب الحرية التي تميز بها العبد الذي ليس برقيق.

ودلت النصوص الشرعية على أنه إذا تعارض حفظ الدين مع ما ينقص حرية الناس ويوقع عليه الاستبداد، دلت على أنه يجب تقديم ما يحفظ الدين للناس، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((خيار أئمتكم من تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون، عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك، قال: لا ما أقاموا لكم الصلاة)) (مسلم 1855).

وهذا المعنى - وهو أن مفهوم الحرية والثورة على الاستبداد لا يصح أن يزاحم مفهوم العبودية وأنه ليس معنى أساسيا في نفيها- هو ما فهمه العلماء والفقهاء والمحدثون الذين ثاروا على الاستبداد وعلى الظلم والبغي وأكل أموال الناس بغير حق، فإنهم لما ثاروا على دولة بني أمية لأجل ما حصل منهم من استبداد، لم يقل أحد منهم الحرية أو الثورة على الاستبداد هو أساس دعوة الرسل ولم يجعل أحد منهم الدعوة إلى الحرية هو جوهر التوحيد، ولم يقل أحد منهم إن الحرية من أصول المعاني العبادية، أو أن من لم يثر على الاستبداد توحيده ناقض وعبوديته مخرومة، كل ذلك لم يحصل منهم، وإنما قدروا الانحراف قدره وأنزلوه منزلته.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015