وكذلك إذا رجعنا إلى الدلالات السابقة التي استعملتها الشريعة في بيان دعوة الرسل نجد أنها أبرزت معاني التأله والحب والخوف والرجاء والتعظيم والإجلال في العلاقة بين الله وبين خلقه، فهي معاني إيجابية تنطلق إلى تعليق القلوب بالله تعالى أولا وقبل كل شيء، فكيف يصح مع هذا أن تقتصر العلاقة على الحاكمية فقط، فالحاكمية هي أحد المعاني التي تدخل في العبودية ولكن ليست أساسها، وقد اجتهد عدد من المفكرين المعاصرين في بيان الخلل المنهجي الذي وقع فيه أبو الأعلى المودودي وسيد قطب في تفسير مفهوم العبودية، وفي شرحهم لمحور دعوة الرسل، ومن أقوى من بين ذلك الخلل: أبو الحسن الندوي في كتابه (التفسير السياسي للإسلام)، ووحيد الدين خان في كتابه (خطأ في التفسير).

الثانية: مزاحمة مفهوم العبودية بالدعوة إلى الحرية والثورة على الاستبداد، فقد غدونا نسمع في المجالس ونقرأ في المنتديات أن الرسل إنما جاءت لتحرر الإنسان من الاستبداد، ونقرأ أن مفهوم التوحيد والعبادة يرجع إلى مفهوم الحرية، أو أن مفهوم الحرية معنى أصلي في التوحيد، ونسمع أن الإنسان لا يكون كامل التوحيد حتى يتخلص من كل أنواع الاستبداد، ونقرأ أن جوهر جهاد الأنبياء يرجع إلى الانقلاب على الظلمة، بل سمعنا من يقول إن عبودية الاستبداد تفوق عبودية الوثن، ووجدنا من يقول إن الفكرة المحورية في الأديان هي الانتصار للمستضعفين.

ولما اطلع بعض الباحثين على هذه العبارات وغيرها أخذ يقول إن أصحابها يقصدون اختزال دعوة الرسل في الدعوة إلى الحرية، وأنهم يقللون من أهمية الشرك بالله في العبادة، وأنهم يؤخرون منزلته عن الحرية.

وإذا اعتبرنا أحوال كثير من عقلاء المشتغلين بالدعوة إلى الحرية والمختصين في شأن الإنكار على الاستبداد لا نرى ذلك الوصف منطبقا عليهم، بل هو توصيف مخالف للحقيقة، فهم لم يقصدوا إلى اختزال مفهوم التوحيد في الحرية ولم يقصدوا إلى التقليل من خطورة الشرك في العبادة.

ومكمن الخطأ في نظري راجع إلى معنى آخر، وهو أن تلك العبارات يدل ظاهرها على مزاحمة مفهوم العبادة بمفهوم الحرية، ويدل على مساواة لوازم العبودية لله تعالى بالمعاني المتضمنة فيها، ونحن إذا توجهنا بالتحليل إلى تلك الأفكار، وحاكمناها إلى نصوص الشريعة، فإنا نقف في النصوص على أن المحور الأساسي الذي سعى الإسلام لغرسه في قلوب الناس هو مفهوم العبودية، ولم يركز على مفهوم الاستبداد أو الحرية كمحور ومرتكز لدعوة الرسل، نعم هناك إشارات إلى هذا المفهوم، ولكنها لا تعدوا أن تكون مجرد إشارات لا تنقله وتؤهله لأن يكون مزاحما لمفهوم العبودية، أو يكون عنصرا أساسيا فيها بحيث إذا انخرم يقع الخلل في مفهوم العبادة!، وإنما هو مثله مثل أي طاعة أخرى.

فمما لا شك فيه أن كل الطاعات تدخل في مفهوم العبودية، وكل المعاصي تدخل في مفهوم الشرك من جهة أنها نتيجة الخضوع للهوى والنفس والشيطان، ففعل الزنى - مثلا - يمكن أن نجعله من الشرك، وأنه نتيجة الخضوع لاستبداد الهوى, ولكن هذا لا يبرر لنا أن نجعل الدعوة إلى ترك الزنى محورا أساسيا في دعوة الرسل، وإنما هو تابع للمحور.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015