وأما الثاني: فهو الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، الذي يعد صفحة حافلة من تاريخ التراث العربي، قدم وحده المكتبة العربية ما لم تقدمه هيئة علمية مدعومة بالمال والرجال. وقد رمي الرجل بأنه لأعاد طبعات سابقة عليه مما أخرجته مطبعة بولاق ومطابع أوروبا، وأنه لم يعبأ بجميع مخطوطات الكتاب الذي ينشره، وأنه لم يضع الفهارس الفنية الجامعة لمسائل الكتاب المنشور.
لكن هذا لا ينقص من قدر الرجل وجهده الذي بذله في تصحيح وضبط النص ضبطاً صحيحاً، وإضاءته بالشروح اللغوية التي تنفي عنه الجهالة أو الغموض، مع العناية بعلامات الترقيم، وأوائل الفقرات، وعدم تداخل أجزاء الكلام. ويكفيه فضلاً أن كل من تعلم النحو في شرق الدنيا وغربها بعده مدين له بدين كبير لما بذله من جهد بالغ في إخراج كتب النحو في أسلوب يمتع الدارس ويصقل اللسان.
والتي تحمل كل سمات المنهج العلمي الدقيق في إخراج النصوص، والتي تأثرت إلى حد ما بمناهج المستشرقين الذين شغلوا بتراثنا والذين استقوا زبدة مناهجهم من أصل تراثنا.
وكان صاحب الفضل في هذا بعد الله سبحانه: أحمد زكي باشا، الذي قال عنه شكيب أرسلان: "كان يقظة في إغفاءة الشرق، وهبة في غفلة العالم الإسلامي، وحياة في وسط ذلك المحيط الهامد".
وقد برز في هذه المرحلة مشيخة جليلة من العلماء الذين بذلوا جهداً واسعاً فيما أسند إليهم، ولم يحظوا بمعشار ما يحظى به أدعياء التحقيق في هذه الأيام، ومنهم: الشيخ أحمد الزين، والشيخ عبد الرحيم محمود، والشاعر أحمد نسيم، والأستاذ محمد عبد الجواد الأصمعي، والشيخ أحمد عبد العليم البردوني، والعالم الجزائري إبراهيم اطفيش. ومن الطريف أن الشيخ محمد الخضر حسن شيخ الأزهر كان قد عمل مصححاً في هذه الدار في مقتبل حياته العلمية.