ثم إن سبب نزول الآية ينفي هذا التفسير الخاطئ، فقد روي عن أسلم أبي عمران، قال: "كنا بالقسطنطينية وعلى أهل مصر عقبة بن عامر الجهني، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد بن عامر الجهني، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج من المدينة صف عظيم من الروم، وصففنا لهم صفاً عظيماً من المسلمين، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، ثم خرج إلينا مقبلاً، فصاح الناس فقالوا: سبحان الله! ألقى بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أيها الناس، إنكم تتأولون هذه الآية على غير التأويل، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إنا لما أعز الله تعالى دينه وكثر ناصريه، قلنا بعضنا لبعض سراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، فلو أنا أقمنا فيها وأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله تعالى في كتابه يرد علينا ما هممنا به، فقال: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}. انظر: أسباب النزول للواحدي ص 51، وسنن أبي داود 3/ 12 (كتاب الجهاد)، والدر المنثور في التفسير بالمأثور 1/ 207، هذا وقد ذكر الطبري آثاراً أخرى تدل على أن المراد من الآية ترك النفقة في سبيل الله. راجع تفسيره 3/ 583 - 589.
يقول الله تعالى: {والفتنة أشد من القتل} [البقرة: 191]، ويقول تعالى: {والفتنة أكبر من القتل} [البقرة: 217]، ويستشهد الناس بهاتين الآيتين فيمن ينقل كلاماً سيئاً من واحد إلى واحد، أو من طائفة إلى طائفة، ليوقع فتنة أو وحشة بينهما، فهي النميمة، والفتنة في اللغة هي المحنة والاختبار والابتلاء. قال الشاعر:
وقد فتن الناس في دينهم ... وخلى ابن عفان شراً طويلاً
نعم، إن النميمة تفضي إلى الفتنة، ولكن ليست هي هي، فكأن العوام فسروا الفتنة في الآيتين بما تؤول إليه النميمة، لكن هذا ليس دقيقاً، كما أن سبب نزول الآيتين ينفي هذا الفهم والتأويل، وسياق الآية الأولى هكذا: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190) واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل}، فالفتنة في الآية هي الشرك الذي أراده