الأُنس بالمكتبة العربية كلها في فنونها جميعها، ودوران هذه الفنون في فكره وقلبه دوران الدم في العروق.
ولقد سارت حياة محمود محمد شاكر في طريقين، استويا عنده استواء واضحًَ عدلاً: الطريق الأول: طريق العلم والمعرفة، يعب منهما ولا يروَى. والطريق الثاني: التنبه الشديد لما يُحاك لأمتنا العربية من كيد ومكر، وما يُراد لثقافتها وعلومها من غياب واضمحلال، وظل حياته كلها قائماً على حراسة العربية، والذود عنها، يحب من أجلها، ويخاصم من أجلها، وقد احتمل في حالتيه من العناء والمكابدة ما تنوء بحمله العُصبة أولو القوة.
وقد حارب أبو فهر في جهات كثيرة، وخاض معارك كثيرة: حارب الدعوة إلى العامية، وحارب الدعوة إلى كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية، وحارب الدعوة إلى هَلْهَلة اللغة العربية والعبث بها بحجة التطور اللغوي، وحارب الخرافات والبدع والشعوذة، وقد حارب في كل ذلك وحده غير مُتَحَيزٍ إلى فئة، أو منتصر بجماعة، وهو في معاركه كلها صلبٌ عنيد فاتك، ألقى الدنيا خلف ظهره، ودَبْرَ أذنيه، فلم يعبأ بإقبالها أو إدبارها، واستوى عنده سوادها وبياضها، ولقد أقصي كثيراً عن محافل الأدب ومجالي الشهرة، فلم يزده ذلك إلا إصراراً وثباتاً، ووقف وحده في ساحة الصدق شامخ الرأس مرفوع الهامة، يرقب الزيف ويرصده ويدل عليه، ولم يجد خصومه في آخر الشوط إلا أن ينقروا الشباب عنه ويُبَغَضوه إليهم، بما أشاعوه عن حدته وبأسه وتعاليه، فنكص من نكص مسيئاً في نكوصه، وثبت من ثبت محسنا في ثباته.
ومع كل هذا الحصار الذي ضرب حول محمود محمد شاكر فقد خلص إليه طلبة العلم ومحبو المعرفة، ينهلون من هذا المنهل العذب، فكان بيته جامعة عربية ضخمة: طوائف من الناس من مختلف البلدان والأعمار والانتماءات، وسعهم ذلك البيت المفتوح دائماً، ولم يفتح لهم يوماً دون يوم، أو ساعة دون ساعة.
وقد دار إنتاج أبي فهر في ميدانين: التأليف والتحقيق، وهو في كلا الميدانين