وقد صار ما أورده الجاحظ من كلام الفصحاء والخطباء، وما انشده للشعراء المقلّين والمكثرين، مدداً لجامعي اللغة وأصحاب المعاجم، فهو قريب عصر بالرواية، مع حافظة واعية تجمع كل شاذة وفاذة.
وفد اتسع كتاب البيان والتبيين أيضاً لكثير من أوجه الحضارة العربية، مثل نظم العرب الاجتماعية والسياسية والمالية والخلقية والتعليمية.
وكنت على أن اذكر لك أيها القارئ الكريم شيئاً من حلاوة الكلام في كتابنا هذا: البيان والتبيين، لكني رأيت المقام لا يتسع له، فحسبي أن أنقل لك هنا فاتحته وخاتمته، وحسبك بهما دليلاً على حسن البيان، وجمال الأداء، يقول الجاحظ: "اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول، كما نعوذ بك من فتنة العمل، ونعوذ بك من التكلُّف لما لا نحسن، كما نعوذ بك من العُجب بما نحسن، ونعوذ بك من السلاطة والهذر، كما نعوذ بك من العي والحصر، وقديماً ما تعوَّذوا بالله من شرهما، وتضرعوا إلى الله في السلامة منهما".
ثم يقول في خاتمته: "وهذا أبقاك الله آخر ما ألفناه من كتاب "البيان والتبيُّن" (هكذا بياء واحدة مشددة، وراجع ما كتبته في عدد الهلال الماضي) ونرجو أن نكون غير مقصرين فيما اخترناه من صنعته، وأوردناه من تأليفه. فإن وقع على الحال التي أردناها، وبالمنزلة التي أمَّلنا، فذلك بتوفيق الله وحسن تأييده، وإن وقع بخلافها، فما قصرنا في الاجتهاد ولكن حرمنا التوفيق، والله سبحانه وتعالى أعلم".
هذا، ولقد كان من فضل الله وإنعامه أن يسّر لكتاب الجاحظ عَلَمين من أعلام العصر، وقفا على تراث الجاحظ، وأعطياه حظه من النظر والفقه والصبر، وبذلا غاية الوسع والطاقة في تحريره وتحقيقه والتعليق عليه، ثم ألبساه حلة العصر بذلك الإِخراج المعجب الأنيق، والفهارس الفنية الكاشفة: عنيت أستاذي العلامة عبد السلام محمد هارون، والأستاذ الجليل الدكتور طه الحاجري، برَّد الله مضاجعهما، وأنزلهما منازل الأبرار، وقد نشر الأول من تراث الجاحظ: الحيوان