وتروح أيام وتجيء أيام، ويظل محمود شاكر لصيقاً بالكتاب، لا يكاد يدير وجهه عنه. لقد ألقى محمود شاكر الدنيا خلف ظهره ودَبْر أذنيه، ولم يبال بإقبالها أو إدبارها، وفرغ للعلم والمعرفة، وقد أعانه على أمره عقل فذ، ونفس متوثبة، وأشياء كثيرة مركوزة في الطبع، مذخورة في أصل الخلقة، مما يصطفي الله بها خلقه من الأنبياء وأصحاب الرسالات وصناع الحضارات.
وقد كتبت عن محمود شاكر كثيراً، وحاولت أن ألتمس وجوهاً من الوصف تنبئ عن حقيقة حاله ومكنون أمره، وغاية ما انتهيت إليه أن الرجل رزق عقل الشافعي وعبقرية الخليل ولسان ابن حزم وجلَّد ابن تيمية، بل إني رأيت أن ليس بينه وبين الجاحظ أحد في الكتابة والبيان، وكنت أرى أن كل هذا الذي قلته غير كاف في حقه، حتى وقفت على ما أريد من وصفه في كلام لأبي حيان التوحيدي، يقارن بين الجاحظ وابن العميد، يقول أبو حيان:
"إن مذهب الجاحظ مدبر بأشياء لا تلتقي عند كل إنسان، ولا تجتمع في صدر كل أحد، بالطبع والمنشأ والعلم والأصول والعادة والعمر والفراغ والعشق والمنافسة والبلوغ. وهذه مفاتح قلما يملكها واحد، وسواها مغالق قلَّما ينفك منها أحد".
فهذا كلام مفصل على محمود شاكر تفصيلاً، ومصروف إليه صرفاً، ويزد عليه غيرته الشديدة على العربية ودفاعه الحار عنها، وخوضه تلك المعارك الرهيبة التي خاضها بقلب رجل صلب عنيد فاتك، وقد خاض معاركه كلها وحده، غير متحيز إلى فئة ولا منتصر بجماعة.
وبعد: فيا أبا فهر، أي علم باذخ طوي بموتك، وأي دليل هاد غاب برحيلك، وأي ضوء ساطع طفئ بغيابك، وأي حزن أسود نشب بالقلب بفقدك:
ما في الصحاب أخو وجد نطارحه ... حديث نجد ولا صب نجاريه
وليرحمك ويرحمنا الله.
* * *