والقضية أقدم من عميد الأدب العربي بأكثر من ألف عام. وإليك يُساق الحديث: قال أبو محمد بن الخشاب المتوفى سنة 567 هـ: إن أبا حاتم السجستاني قال: ليس الفرزدق أهلاً لأن يستشهد بشعره على كتاب الله، لما فيه من التعجرف.

وقال ابن خشاب أيضاً: لم يَجْرِ في سَنَن الفرزدق من تعجرفه في شعره، بالتقديم والتأخير المخل بمعانيه، والتقدير المشكل إلا المتنبي، ولذلك مال إليه أبو علي وابن جني، لأنه مما يوافق صناعتهما، ولا ينفع المتنبي شهادة أبي علي له بالشعر، لأن أبا عليًّ مُعْرِب لا نقَّاد، وإنما تنفعه شهادة العسكريين (يعني أبا أحمد صاحب المصون، وأبا هلال صاحب الصناعتين وديوان المعاني)، وأبي القاسم الآمدي، فإنهم أئمة يقتدى بهم في نقد الإعراب».

في قلب الحركة الشعرية:

أرأيت يا سيدي الشاعر! هذا أبو علي الفارسي شيخ النحاة في القرن الرابع وتلميذه العظيم ابن جني، كلاهما مع الإبداع الشعري، ولعلي أذكر شيئاً من تخريج أبي علي لشعر الفرزدق الذي عابه عليه النحاة.

فذكر «النحاة» هكذا بصيغة التعميم غير صحيح. وأيضاً فإن وضع القضية على هذا الشكل يجعل النحاة - وبخاصة عند من لا يعرف تاريخ العلم والعلماء - بمعزل عن الشعر، بل في موقف المتربص به، الكاره له، البعيد عنه. وهذا غير صحيح أيضاً، فإن كثيراً من نحاة الصدر الأول لم يكونوا منظرين من بعد، بل كانوا في قلب الحركة الشعرية، وفي الصميم منها: فهذا أبو عمرو بن العلاء الإمام النحوي اللغوي، وأحد القرَّاء السبعة كان راوية لذي الرمة الذي يقال: إن شعره يمثل ثلث لغة العرب. وعناية أبي عمر بالشعر الجاهلي معروفة، وقد كان يعول مع السماء والرواية على الكتابة والتقييد. وكان يونس بن حبيب شيخ سيبويه شديد الاختصاص برؤبة بن العجاج. وكان نِفْطويه يحفظ نقائض جرير والفرزدق وشعر ذي الرمة.

أما أبو العباس ثعلب - وهو مع الكسائي والفراء، زعماء مدرسة الكوفة النحوية - فإن له علقة شديدة بالشعر والشعراء: فقد صنع دواوين الأعشى وزهير

طور بواسطة نورين ميديا © 2015