على أني أظن ظناً أن الأستاذ حجازي قد غَبَن نفسه، وحجَّر عليها واسعاً حين حصر طريق معرفته بالشعر الجاهلي في هؤلاء الثلاثة؛ فإني ألمح في شعره وفي كتاباته الأخيرة رصيداً طيباً من القراءة المتعددة المصادر والموارد.
والعميد الدكتور طه حسين - على جلالة قدره ونباوة محله - لم يكن وحده في ساحة الشعر الجاهلي، فقد سبقه سابقون، وعاصره معاصرون، ولحقه لاحقون، بذلوا لذلك الشعر الجاهلي من صفاء نفوسهم ونقاء أذواقهم، وذكاء ألسنتهم، ونصاعة أقلامهم، ما كشف هذا الشعر، ودل على أنه أنبل كلام العرب وأشرفه، وأنه مستودع أسرار العربي ومُستراحه، ومَجْلَى مواجعه وأشواقه.
أما الأستاذ الكبير الدكتور مصطفى ناصف فما فتئ يصرّح بأن الشَّأو بعيد، والمدى أوسع مما يحيط به بَصَر، بل كثيراً ما يحدَّثني كفاحاً ومشافهة ليس بيني وبينه أحد، عن صعوبة طريق الشعر، ثم يقول لي بلهجته العذبة الودود: «يا مولانا، المسألة ما هش كده، احنا محناش واخدين بالنا، لازم نقرأ ونقرأ» ثم يثنى على فلان، ويحيل على فلان من السابقين الأولين.
ومهما يكن من أمر فإن الذي يعنيني من مقالة الأستاذ حجازي هنا قوله عن الدكتور طه حسين: إنه يدين له «بهذا المنهج الذي أخرج به الشعر الجاهلي من سلطان النحاة والشراح وسدنة الكتب الصفراء». وهكذا يرسل الأستاذ حجازي الكلام إرسالًا، وكأن ذلك من الحقائق المؤكدة التي استقرت عند الناس، ولم يبق لأحد فيها مقال.
وسأؤخر الحديث عن سلطان النحاة إلى حين «وأحبب إلينا أن تكون المقدَّما». وآخذ في الحديث عن «سدنة الكتب الصفراء»، ولنفرغ أولًا من «سَدَنة» هذه على طريقة «تحرير المصطلح قبل الأخذ في المناقشة».
و«سدنة» من الكلمات التي يتساهل بعض الكتَّاب فيها، فيستعملونها في غير ما وُضِعت له، وهي جمع «سادن»، وهو خادم الكعبة خاصة، وخادم الأصنام في