والصلة بين الاجتهاد والتجديد صلة ظاهرة، ذلك أن تجديد الدين هو بعثه وإحياؤه، والاجتهاد هو بيان حكم الدين في أمور الحياة التي لم تكن معروفة من قبل. ففي كل عصر لابد أن تحدث أقضية وتطرأ مسائل لم يتبين حكم الدين فيها، فلابد للمجدد وهو يعيد الناس إلى دائرة الدين ويصبغ شؤونهم بصبغته، أن يتناول هذه المسائل بالنظر والتمحيص ويبين موقف الدين منها، ويقدم حلولًا للمشاكل، ويضع الضوابط والحدود التي تسمح للحياة من جهة بالتطور والتغير، والتي تجعل من جهة أخرى ذلك التغير داخلًا تحت موازين الدين وقيمه ومحكومًا بإطاره وتصوراته.
ولقد قدمنا فيما سبق أن السلف جعلوا من مميزات المجدد وصفاته البارزة أن يكون مجتهدًا، ومن الأئمة في هذا الشأن الإمام الشافعي مجدد المائة الثانية، ولهذا تصلح أن تكون جهوده في مجال الاجتهاد نموذجًا من جهود المجددين في هذه الناحية الهامة من نواحي التجديد.
وليست ميزة الشافعي التي رفعته لأن يعد مجدد المائة الثانية هي أنه حاز درجة الاجتهاد، وكان مؤسسًا لمذهب فقهي انتشر في آفاق الأرض، ولكن ميزة الشافعي الكبرى والخدمة الهامة التي خدم بها الدين هي ما قام به من جهود في ميدانين: تدوين أصول الفقه والدفاع عن السُّنَّة.
تدوين أصول الفقه:
إذا كان الفقه هو أحكام الدين التفصيلية لشؤون الحياة العملية، فإن أصول الفقه هي الأسس والقواعد التي ينبني عليها هذا الفقه، فلا يتصور وجود الفقه بدون هذه الأصول. ويمكن القول إن أصول الفقه هي عبارة عن مجموع أدلة الفقه الكلية، ومعرفة طرق اقتباس الأحكام منها، ومن يحق له هذا الاقتباس (?). وأدلة الفقه الكلية هي مصادر التشريع وحججه العامة، وهي إحدى أقسام مباحث علم أصول الفقه الذي يبين هذه المصادر والأدلة التي تثبت أنها حجة. والقسم الثاني من مباحث هذا العلم ينظر في كيفية الاستدلال لاستخراج الأحكام